هكذا أخبرنا سيدى فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى الذى نبدأ فى
سرد أحاديثه مرتبًّة ومبوًّبة من غير إضافة اللهم إلا المعانى التى أقرها
بنفسه لغيره من العلماء من السلف الصالح � وقد تم نقل كلامه من العامية
السودانية إلى لغة عربية سهلة على الفهم فى أدنى مستوياته من غير إخلال
بأصول التراث الذى سمعناه منه مباشرة ، أو من الشرائط المسجلة حيث تم جمع
المستطاع منها ، وبوبناه باللفظة التى قالها
وذلك التراث قد
تمت كتابته لفظيا
كما قيل من غير إضافة أو حذف ونحن هنا لم نتدخل بالرأى على الإطلاق
فى نقل التراث ولكن توقف عملنا على التجميع والترتيب والتبويب ،
وذكر الآيات مفهرسة ، والرجوع إلى كتب الحديث لتخريجها وبيان
مصادرها وتبيان مصادر الكلام الوارد وكلام السلف الصالح رضـوان
الله عليهم أجمعين كما ورد فى أصوله في الكتب المطبوعة أو
المخطوطات.
ونود أن نوضح أننا قد استعنا ببعض أبيات من ديوان شراب
الوصل الذى يحوى الفرائد التى أملاها سيدى فخر الدين وذلك لأن العلوم
التى قالها فى دروسه منثورة إنما هى بعينها التى أوردها فى قصائده منظومة.
يكون النثر منظوما عجيبـا
كنظم النثر فى قولى ألست
ويوم النثر يعجب كل عبد
يروم العلـم مما قد علمت
ويقول أيضا:
الحق ما أحبوه منــــ
ـظوما ولست بشاعر
وإذا نظمت فناظـــــم
قولى بنظم النــــاثر
وحرصا على نشر ذلك العلم النفيس وعدم ضياعه على مرور
الزمان فنكون قد قصًّرنا فى حق الأجيال اللاحقة كما أشار إلى ذلك بقوله:
فكيف الحال والأيام تأتي
على الآجال والميراث صمت
لذا بدأنا هذا العمل الذى نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون
وسيلة وصل المانحات مفيضة.
ورضى الله تبارك وتعالى عن سيدنا ومولانا الشيخ إبراهيم
الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى الذى وجه وأعان بمدده وكل ما وقع من
الخطأ والنسيان فهو من عجزنا أو تقصيرنا أو عدم فهمنا لما يريد أو يقصد
،وأهل بيت كريم السوح عترة سيدى فخر الدين صدور العلم الذى بثه ، والعلم
الذى ننتظره لتحيا به الأرواح وتعلمه القلوب وتعمل به الأجساد رضى الله
عنهم فى الآزال والآباد.
والله نسأل توفيقه لما يحبه ويرضاه وصلى الله على سيدنا
وحبيبنا محمد النبى الأمى وعلى آله الطيبين الطاهرين وسائر الصحابة
أجمعين ورضى الله عن التابعين وتابعى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين.
معنى العلم ودرجاته
العلم نقيض الجهل ويقال رجل عالم ورجل عليم ورجل علامة
ولحقت هنا تاء التأنيث للمبالغة والرجل العالم الذى صار العلم كأنه غريزة
فيه وإلا كان متعلما :
ومن ينسب إلى القرآن علمى
وأقوالى يفيد ويســتفيد
الأصل عندى سنة من سـنة
هو ذا لسانى قد أفاد وأخبرا
فالعلم فى الصفات الإلهية جامع لكل المعانى ولكل الوجود
ولكل التصاريف ولكل الماهيات والعلم ضد الجهل على الإطلاق.
ويُنَزِّلُ الله سبحانه وتعالى العلوم على من يشاء من
عباده من حضرة الاسم العليم فى باطن الكرسى من عالم الجبروت إذ يقول جل
شأنه:{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء
وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العـلى العظيم} (البقرة
255).
ولكن هذه العلوم العليِّة لا تكون للعاصين أو المذنبين
لأن الذنوب تحجب الإنسان عن ربه لأنها تغطى القلب فيصير الذنب حجابا بينك
وبين ربك فى الدنيا ويحول ذلك الحجاب بين الإنسان وبين أن يفقه العلوم
التى تنزلت من الله سبحانه وتعالى فى كتبه المقدسة أو على ألسنة رسله
الكرام عليهم السلام كما قال الحق تبارك وتعالى :{ قالوا يا شعيب ما نفقه
كثيرا مما تقول} (هود
91) وقال عز من قائل:{وقالوا قلوبنا فى أكنة مما
تدعونا إليه} (سورة فصلت5)
ويظل ذلك الحجاب قائما إلى يوم البعث ثم الحشر ثم الحساب
ثم العقاب ولَقَوْل الله أوضح فى ذلك الشأن إذ يقول جل جلاله:{كلا بل ران
على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم
لصالوا الجحيم}.
(سورة المطففين
14
-
15-
16)
أما إذا ائتمر الإنسان بالأوامر وانتهى عن النواهى ثم ملأ
فراغ وقته بالطاعات وغرق فى العبادات وتطهر من الذنوب والمعاصى وتزكى
بالذكر والصلاة على الحبيب الهادى فإن الله يؤتيه العلم حتى ينتفى عنه
الجهل بالكلية فيصير عالما.
الوقت فى سنن العبادة قد فنى
وأنا بقولي منذر وبشـــير
والذى يفنى وقته فى سنن العبادة أى الاشتغال بالنوافل
والطاعات بعد أن فرغ من الفرائض يفيض الله عليه علوم التوحيد ومنها تتفرع
كل العلوم فى شعاب قلبه ذلك الجبل الذى ينضح بالمعانى على اللسان ليروى
كل ظمآن.
إن فى التوحيد إحكام المثانى
عالم التوحيد بغيته المعـانى
والمعانى فى أكنتها رمــوز
فالمبانى فيه صارت كالأوانى
وإذا بدأ يفتق ما رتق من العلوم فى أكنتها ورموزها أى إذا
بدأ يتفنن ويخرج اللآلئ من العلوم يصير عليما
فى يمينيه قوتى ومراســـى
بلسانيه عالم وعليــــم
وعلمتانى ما به الأمر قائــم
فصرت عليما والقرائن دلت
وإذا بدأ يخترع من العلوم ويعرف ظاهرها من باطنها يصير
علاًّمة :
من علمه فى علمه وبعلمــه
حزت الكمال ولم أزل مدثرا
ولقد فصل القرآن الكريم تلكم الدرجات من العلم وربطها
بالعبادات ونبدأ بقوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر
الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولو الألباب} (سورة الزمر 9) وهذه هى أول درجة هل يستوى العالم
والجاهل ؟
ولكن المرء لا يولد عالما ولكن كما قال سيدنا أبو
هريرة(إنما العلم بالتعلم) وقال سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله
عنهما:(كونوا ربانيين فقهاء حلماء)� أى تربوا بصغار العلوم ثم ارتقوا حتى
تفقهوا ولا تبدءوا بالمعضلات من المسائل الفقهية.
وعلى كل مسلم ومسلمة أن يتعلم كما أمرنا رسول الله (طلب
العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) بن ماجة عن أبى الدرداء وقد روى البيهقى
عن سيدنا أنس قال قال رسول الله(اطلبوا العلم ولو بالصين)� وباتباع قول
رسول الله يخرج الإنسان من دائرة الجهل ليبدأ فى تحصيل العلم� وتحصيل
العلم يحتاج إلى التقوى والبعد عن المعاصى ليثبت العلم فى القلب وما أجمل
وصف الإمام الشافعى فى هذا المضمار إذ يقول :
شكوت إلى وكيع سوء حفظى فأرشدنى إلى ترك المعاصى
وأخـبرنـى بـأن العـلم نـور
ونور الله لا يهـدى لعـاصى
ويفيض الله سبحانه وتعالى بنور علمه على المهتدين والمؤمنين من عباده ،
وإلى القرآن الكريم مرجعنا ليرتقى بنا فيعلِّمنا أن الذين أوتوا العلم
ليسوا سواء فى درجة واحدة{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات} (المجادلة11) ويظل الله سبحانه وتعالى يرفعهم فى الدرجات
فتزاد لهم المعارف وكلما زادت المعرفة ازدادوا خشية لله وخوفا منه فالخوف
والمعرفة صنوان حتى يصير لكل منهم قدم راسخة فى العلم {وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما
يذكر إلا أولو الألباب}(آل عمران 7) فمن هم الراســخون فى العلم ؟روى بن
جرير عن أبي أمامه وأبي الدرداء وأنس بن مالك أن رسول الله سُئل عن
الراسخين فى العلم فقال:(من بَرَّتْ يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه
وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخ فى العلم).
وتلك الآية الكريمة تشير إلى أن التأويل عند الله ،
والمراد بالتأويل(نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلى إلى ما يحتاج إلى دليل
لولاه ما ترك ظاهر اللفظ) والراسخون فى العلم آمنوا بالتأويل الذى
لايعلمه إلا الله فإن كان لا يعلمه إلا الله فبأى شئ آمنوا ومن الذى
أخبرهم بأن هناك تأويلاً للقرآن.
وإذا كان الذين يريدون الفتنة يريدون التأويل على غير
مراد الله فمن الذى يعلم التأويل على مراد الله وعلمه للراسخين فى العلم
ليقولوا آمنا به ؟ إنما هم الأعلى درجة منهم وهم العارفون بالله الذين
قال القرآن العظيم فى حقهم { إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر 82)
وهكذا ربط القرآن بين العبادة والخشية والعلم ، فمن خاف الله عبده ومن
عبده آتاه الله العلم ، هذه هى القاعدة فى كل درجات العلم وهذه المراتب
لا تحصل بالمذاكرة والمدارسة وهل تنفع المذاكرة والاجتهاد فيها بغير
اجتهاد فى العبادة القائمة على الخوف من الله ، وكما وصفهم القرآن وصنفهم
النبى بقوله:(علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل)� رواه المحب الطبرى
وهؤلاء العلماء تعلموا التأويل من الله وعلموه للراسخين فى العلم الذين
آمنوا به لأنه من عند ربهم.
وإذا كان العلماء فى درجة الأنبياء كما جاء عن أبى
الدرداء قال: (إن العالم ليستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض حتى
الحيتان فى جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر
على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا
دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذه بجد وافر) �رواه أحمد
والبخارى ويفهم من قول رسول الله فضل العالم على العابد ، أى أن العالم
هو فى الأصل عابد وفضله الله بالعلم فصار عابدا عالما لأن العلم لا يتفق
مع الغفلة عن العبادة كما قد يفهم البعض أن مدارسة العلم تغنى عن العبادة
فهذا مفهوم من حاد عن الصواب وأخطأ الجواب كما قال السيد إبراهيم الدسوقى
:
العلم بالذكر لاينفك مقترنا
والجهل صاحبه فى غفلة وعنا
والعارف بالله الذى يعلم التأويل من الله ويعلمه ـ ليس لكل الناس ـ ولكن
للراسخين فى العلم فقط لأنه يخاف من تحذير رسول الله الوارد على
لسان سيدنا أنس بن مالك عن النبى أنه قال:(واضع العلم عند غير أهله
كمقلِّد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)� بن ماجه وقال تعالى: {وفوق كل
ذى علم عليم} (يوسف67).
والعارف بالله ليس الذى عرف الله، فإن الله جلَّ أن يُعرف
سبحانه بل هو الذى وصل إلى درجة من يُعرِّفُهم الله بذواتهم كما يُعرِّفُ
سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بذواتهم ، والدرجة التى تكون من تحتهم هى
درجة الرسوخ فى العلم ، كما ورد عن الحسن البصرى مرســلا أن النبى
قال:(من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسـلام فبينه وبين النبيين
درجة واحدة).
رواه الدارمى
والدليل على أن الله سبحانه وتعالى يُعلِّمُ التأويل لبعض
عباده هو دعاء النبى لسيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما(اللهم فقهه
فى الدين وعلمه التأويل)
(التاج فى الفضائل)، التأويل على غير مراد الله
إما والعياذ بالله يأتى ممن فى قلوبهم زيغ ليفتنوا الناس عن الدين الصحيح
،وذلك كما يعمد البعض إلى تحريم زيارة الصالحين ورميهم بالشرك للزوار
والمحبين متأولين الآيات التى وردت فى عُبَّادِ الأوثان وشتان بين هذا
وذاك وأمثلة ذلك كثيرة ، وقد تنبأ بذلك رسول الله فيما رواه سيدنا أبو
سعيد الخدرى بقوله:(إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على
تنزيله ، فقال أبو بكر أنا هو يا رسول الله.
قال لا ، قال عمر أنا هو يا
رسول الله� قال لا ، لكن هو خاصف النعل وكان أعطى عليا نعله يخصفها)� أبو
حاتم - المحب الطبرى ، تلك إشارة من رسول الله ؟أن سيدنا على كرم الله
وجهه يعلم التأويل الصحيح ويقاتل من يؤوِّل على هواه فى كتاب الله.
محمد صفوت
|