كلمة العدد
ها نحن نودِّع عاماً هجرياً ونستقبل عاماً آخر فأهلا وسهلا بالعام
الهجري الجديد، لقد كانت الهجرة النبوية نصراً عظيما بنجاة الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة الدعوة الإسلامية وكانت بداية لبناء
الدولة الإسلامية وسيادة الشرع الإسلامي وتنفيذ الأحكام وبناء الجيش
القوي لحماية الإسلام وبناء المسجد ليكون بيتاً لله ومدرسة جامعة
للتدارس الديني أستاذها المعلِّم الأكبرالذي لا معقِّب على قوله رسول
الله صلى الله عليه وسلَّم، وليكون مجلس أمَّة تجتمع فيه وتدبّر
شئونها وتتشاور في أمرها لذا اختارها الخليفة عمر رضوان الله عليه
لتكون مبدأً للتاريخ، وجدير بالذكر هذا التاريخ الهجري مهمل في
جامعاتنا ومؤسساتنا وحتى من قبل بعض الحكومات الإسلامية وفي حياتنا
لا يحفل به إلا القليل ولا يكاد الناس يعرفونه إلا في رمضان والحج،
وقد ظهرت دعوة مُغرضة من قبل بعض الأشخاص لإلغائه واعتماد التاريخ
الميلادي ليحلَّ محلَّه وعلى المسلمين أن يكونوا يقظين حتى لا يقعوا
في شرك هذه الدعوات وليس هناك من سبيل إلا بالتوجيه الذي يصدر من
أولي الأمر بربط المسلمين بتاريخهم الهجري المبارك.
أسرة التحرير
مبـاحث شـرعية في المسـائل الصـوفية
مسألة: فإنْ قالَ قائل: ما هوَ لُبُّ طريقةِ الصوفيةِ مِنْ حيثُ
الأعمال؟ وهلْ يوجَدُ ما يؤكِّدُ ذلكَ مِنْ نصوصٍ شرعية؟
فالجوابُ في ذلك: أنَّ لُبَّ طريقتِهمْ مَبْنِيٌّ مِنْ حيثُ العملِ على
ذكرِ اللهِ والصلاةِ على رسولِ اللهِ باعتبارِ أنَّهما نَفْلاَ أعلى
الأركانِ الخمسةِ وهوَ الشهادتان؛ فنفْلُ الأُولى ذكرُ اللهِ ونفلُ
الثانيةِ الصلاةُ على رسولِ اللهِ ، وإمامُهمْ في ذلكَ قولُهُ تعالى
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّـِهِ فَصَلَّى}
وكذلكَ الحديثُ الذي أَخرجَهُ الحاكمُ والترمذيُّ عنْ سيدِنا أبي
الدرداءِ رضي الله عنه مرفوعا (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ
أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي
دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ
وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ
وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ، قالوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ
اللَّه؟ قال > ذِكْرُ اللَّه) وكذلكَ الحديثُ الجامعُ لِلذكرِ
والصلاةِ على النبيِّ والذي رواهُ الإمامُ أحمدُ وابنُ حبانَ عنهُ
قال (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ ثُمَّ تَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا
اللَّهَ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ إِلاَّ قَامُوا عَلَى
أَنْتَنِ جِيفَة).
مسألة: ما الأصلُ في الأورادِ والأحزابِ وتعيينِ العَددِ في العباداتِ
وذكرِ الألفاظِ المعجماتِ وإنشاءِ العباداتِ على غيرِ ما أُثِرَ عنِ
الشارعِ ؟ والجواب: بفضلِ اللهِ أنَّ ذلكَ كلَّهُ عملُ النبيِّ
والصحابةِ والسلفِ الصالحِ كلِّهمْ رضي الله عنه، وما خالَفَ ذلكَ
إلاَّ شاذٌّ أوْ مُضِل، والأصلُ في ذلكَ آياتٌ عديدةٌ وأحاديثُ
كثيرةٌ وآثارٌ جَمَّةٌ نذكرُ بعضَها على سبيلِ الاختصار، فمنْها:
قولُهُ تعالى {إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا
٭
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّـِكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} سورةُ
المزمِّلِ 7، 8..
وقولُهُ تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّـِكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٭
وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّـِحْهُ لَيْلا طَوِيلا} سورةُ
الإنسانِ
25،
26..
وقولُهُ تعالى{وَسَبّـِحْ بِحَمْدِ رَبّـِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّـِحْهُ وَأَدْبَارَ
السُّجُود} سورة ق
39،
40..
وقولُهُ تعالى{كَانُوا قَلِيلا مّـِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
�
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون} سورةُ الذاريات
17،
18..
وقولُهُ (أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ
الشَّمْسَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) ذكرَهُ
الغزاليُّ في الإحياءِ..
وقولُهُ (اكْلُفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ
لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)..
وقولُهُ (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ
قَلّ)..
وقولُهُ (مَنْ عَوَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَةً فَتَرَكَهَا
مَلاَلَةً مَقَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى)..
وقولُهُ (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
بِاللَّيْلِ فَقَرَأَهُ بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ كُتِبَ
لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْل) رواهُ مسلم ..
وقولُ الإمامِ الحسنِ رضي الله عنه: (أَشَدُّ الأَعْمَالِ قِيَامُ
اللَّيْلِ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِك، وَمُدَاوَمَةُ الأَوْرَادِ
مِنْ أَخْلاَقِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرَائِقِ الْعَابِدِينَ وَهِيَ
مَزِيدُ الإِيمَانِ وَعَلاَمَةُ الإِيقَان).
أمّا عنِ الأورادِ عندَ الصوفيةِ فلقدْ قالَ فيها سيدي أحمدُ زروقٌ
رضي الله عنه: وبالجملةِ فأحزابُ المشايخِ صفةُ حالِهمْ ونكتةُ
مقالِهمْ وميراثُ علومِهمْ وأعمالِهم، وبـذلـكَ جَرَوْا في كـلِّ
أمورِهم لا بالهوى فلِذلكَ قُبِلَ كلامُهمْ ـ وربّما جاءَ ـ بعدُ ـ
مَنْ أرادَ محاولةَ ذلكَ بنفسِهِ لِنفسِهِ فعادَ ما تَوَجـَّهَ لهُ
عـليهِ بعكسِه؛ وما هوَ إلاَّ كما يُحْكَى عنِ النَّحلةِ أنَّها
عَلَّمَتِ الزنبورَ طريقةَ النسجِ فنَسَجَ على منوالِها ووضعَ بيتاً
على مثالِها ثمَّ ادَّعَى أنَّ لهُ مِنَ الفضيلةِ ما لَها فقالَتْ
له: هذا البيت، وأينَ العسل؟!. فإنَّما السرُّ في السكّانِ لا في
المنزل، فأحـوالُهمْ مؤيَّدةٌ بعلومِهمْ مُسَدَّدةٌ بإلهاماتِهمْ
مصحوبةٌ بكراماتِهمْ. (شرحُ حزبِ البحرِ لِسيدي أحمدَ زروق). ويقولُ
العلاّمةُ الصاويُّ في حاشيتِهِ على الشرحِ الصغير: أورادُ العارفينَ
لا تخلو مِنْ كـونِها مِنَ الكتابِ أوِ السُّنَّةِ أوِ الفتحِ
الإلهي؛ ولِذلكَ تُقَدَّمُ على غيرِها... والوردُ إجمالاً هو: إقامةُ
الطاعاتِ في الأوقاتِ.. ومسكُ الختامِ قولُ سيدي فخرِ الدينِ رضي
الله عنه عندَما سُئِل: هلْ
أورادُ العـارفينَ على غيرِ ما وردَ نصاً في السُّنَّةِ المطـهّرةِ
مقبولة شرعا؟ هلْ هناكَ ما يفيدُ بأنَّ ما وردَ عنِ العـارفينَ مِنْ
أوراد لمْ تُدَوَّنْ في كتبِ السُّنَّةِ مقبولٌ ومعتمَدٌ في الدين؟
فأجابَ رضي الله عنه بما يفيدُ أنَّها معتمَدةٌ ومقبولةٌ لأنَّها
إجماع، وإجـماع الناسِ على الخبيرِ مِنَ الصالحينَ الذاكرينَ فيهِ
الكفايةُ على الاتِّباعِ لِقولِهِ تعالى {وَمَن يُشَـاقِقِ
الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الـْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّـِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا} سورةُ النساءِ511 .أمّا عنِ المسبحةِ
والعَددِ فالأدلةُ عقليةٌ ونقليةٌ لا سبيلَ لإنكارِها إلاَّ مِنْ
مجادِلٍ مُغْرِضٍ لا يبتغي وجهَ اللهِ في أعمالِ دينِهِ.. فمِنْ ذلكَ
أنَّ اللهَ تعالَتْ حكمتُهُ قَيَّدَ العباداتِ في الأوقاتِ
والمقادير، فما مِنْ عبادةٍ إلاَّ ولَها كَمٌّ وكيفٌ وميقات، فإذا
تَحـَقَّقَ هذا في الأركانِ والفرائضِ فما الغريبُ في كونِهِ في
النوافلِ حاصل؟!.. ومِنْ وجهٍ آخَرَ إذا كانَ مِنْ أسماءِ اللهِ
الحسنى الاسمانِ الكريمانِ (الحسيبُ والمحصِي) فمِنَ المعروفِ أنَّ
لِكلِّ اسمٍ في الكونِ تَجَلٍّ فكيفَ يكونُ تَجَلِّيهما في أشرفِ
الأعمالِ على الإطلاقِ وهوَ العبادة؟ فلا شكَّ أنْ يكونَ الحسابُ
والإحصاءُ ظاهرَيْنِ في كلِّ العباداتِ الفرضيةِ والنفلية، وهكذا
صنعَ الشارعُ ..
الأدلةُ مِنْ جهةِ النقل
أَخْرَجَ الترمذيُّ والحاكمُ والطبرانيُّ عنِ السيدةِ صفيةَ رضيَ
اللهُ عنْها قالَت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَبَيْنَ
يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهِنَّ فَقَال
(
مَا هَذَا يَا بِنْتَ حُيَيّ
.
قُلْت: أُسَبِّحُ بِهِنَّ. قَال
(قَدْ
سـَبَّحْتُ مُنْذُ قُمْتُ عَلَى رَأْسِكِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا)
قُلْت: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَال (قُولِي:
سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْء).وأَخْرَجَ ابنُ
سعدٍ عنْ حكيمِ بنِ الديلميِّ أنَّ سيدَنا سعدَ بن أبي وقاصٍ
رضي الله عنه كانَ يُسَبِّحُ بالحصى..وقالَ ابنُ سعدٍ في الطبقات:
عنْ عبيدِ اللهِ بنِ موسى عنْ إسرائيلَ عنْ جابرٍ عنِ امرأةٍ
حَدَّثَتْهُ عنْ فاطمةَ بنتِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي
الله عنهم أنَّها كانَتْ تُسَبِّحُ بخيطٍ معقودٍ...
وأَخـْرَجَ عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ في زوائدِ الزهـدِ مِنْ
طريقِ نعيمِ بنِ محرزِ بنِ أبي هريرةَ عنْ جدِّهِ أبي هـريرةَ رضي
الله عنه أنَّهُ كانَ لهُ خيطٌ فيهِ أَلْفَا عقدةٍ فلا ينامُ حتى
يُسَبِّحَ بهِ.. وقدْ نقلَ سيدي فخرُ الدينِ الشيخُ محمدُ عثمان عبده
البرهانيُّ في (الانتصار) عنِ الإمامِ السـيوطي: وقدِ اتَّخَذَ
السبحة ساداتٌ يُشارُ إليهمْ ويُؤْخَذُ عنهمْ ويُعتمَدُ عليهمْ كأبي
هريرةَ رضي الله عنه كـانَ لهُ خيطٌ فيهِ ألفا عقدةٍ فكانَ لا ينامُ
حتى يُسَبِّحَ بهِ ثنتَيْ عشرةَ ألفِ تسبيحة؛ قالَهُ عكرمةُ.. فإنْ
قالَ قائلٌ أوْ سألَ سائل: وهلْ لِلعَددِ ضرورةٌ في الذكرِ والتسبيحِ
حيثُ كانَ الأمرُ نفلياً ولا ضررَ في إطلاقِ العَدد؟ فنقولُ وباللهِ
التوفيق: إنَّ الشارعَ طالَما حَدَّدَ عـبادةً نفليةً ما بعَددٍ ما
فلا بُدَّ مِنْ حكمةٍ في العَدَدِ يَعلمُها هــو، فـلا سبيلَ إلاَّ
اتِّباعُهُ قلباً وقالَباً وهذا مقتضى الإيمـانِ.. والآثارُ الدالةُ
على ذلكَ كثيرةٌ نذكـرُ واحداً منْها خـشيةَ الإطالةِ وهوَ ما رواهُ
الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ ونقلَهُ النوويُّ في الأذكارِ عنْ رسولِ
اللهِ قال (مُعَقِّبَاتٌ لاَ يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ
فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَة: ثَلاَثاً
وَثَلاَثِينَ تَسْبِيحَةً وَثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ تَحْمِيدَةً
وَأَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ تَكْبِيرَة)
د.إبراهيم دسوقي |