سـيدنا العـباس رضـي الله عنه
أبو الفضل سيدنا العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي
الهاشمي عم رسول الله وأمه السيدة نتيلة بنت جناب بن كلب رضي الله
تعالى عنها ولد قبل رسول الله بسنتين ضاع وهو صغير فنذرت أمُّه إن
وجدته أن تكسو البيت، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك
. وكان له في الجاهلية السفارة والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع
الأنصار قبل أن يعلن إسلامه شهد بدراً مع المشركين مكرهاً فأُسِر
فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكة وصار
يكتب للنبيِّ بالأخبار ثم هاجر قبل الفتح بقليل وبهذا بشَّره رسول
الله لما قال له: بك تختم الهجرة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
أسلم العباس بمكَّة قبل بدر، وأسلمت أم الفضل معه حينئذ، وكان مقامه
بمكَّة، وكان لا يُخفي على رسول الله بمكَّة خبرا يكون إلا كتب به
إليه، وكان من بمكة من المؤمنين يتقوون به، وكان لهم عوناً على
إسلامهم، وقد كان يستأذن النبيَّ في الهجرة، فكتب إليه رسول الله :
إن مقامك مقام مجاهد حسن، فأقام بأمر رسول الله . وقد جاء عن أبي
رافع رضي الله عنه أن العباس رضي الله عنه كان مسلماً وأما إتيانه
بالشهادتين بعد أسره في بدرفذلك لأنه لم يجهر بإسلامه قبل هذا وقد
أخفى النبيّ إسلامه عن أصحابه حتى لا يعلم المشركون بذلك.
مناقبه رضي الله عنه
كان طويلا جميلا أبيض وقالوا: كان اقرب الناس شحمة أذن إلى السماء.وكان
معتدل القوام وكان رأساً في قريش في الجاهلية مقدَّما فيهم لأنه كان
ذا رأيٍ حسن جواداً مطعاما، وصولا للرحم، وكان مُوكلا إليه عمارة
المسجد الحرام، فكان لا يدع أحداً يسبُّ فيه ولا يقول فيه هجراً،
وكانت قريش قد اجتمعت وتعاقدت على ذلك فكانوا له عوناً وأسلموا له
ذلك. قال فيه : من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عمُّ الرجل صنو أبيه
وقال ابن المسيب عن سعد: كنا مع النبيِّ فأقبل العباس رضي الله عنه
فقال رسول الله : هذا العباس أجود قريش كفَّاً وأوصلها، وعن سفيان بن
الحارث عن أبيه قال: كان العباس رضي الله عنه أعظم الناس عند رسول
الله كان بين سيدنا العباس وبين ناسٍ من الصحابة كلام وخصومة فبلغ
ذلك رسول الله فجاء فصعد المنبر وقال:أيها الناس أيّ أهل الأرض أكرم
على الله؟ قالوا: أنت. قال : فإنَّ العباس مني وأنا منه.
وكان مع النبي يوم العقبة، يعقد له البيعة على الأنصار السبعين
الذين اجتمعوا رضي الله عنهم فأخذ المصطفى العباس معه وكان يثق به
في أمره كلِّه، فكان أوَّل من تكلَّم العباس وهو آخذ بيده ، فقال:
إنَّ محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عز من قومه
ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم
ترون أنكم وافون له ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم
ترون أنكم مانعوه وخاذلوه بعد الخروج فمن الآن فدعوه فإنه في عزة
ومنعة في قومه وبلده. فقالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله
فخذ لنفسك ولربِّك ما أحببت. وقد حفظ له رسول الله هذا فدعا له
فقال: إنَّ عمي العباس حاطني بمكة من أهل الشرك، وأخذ لي على
الأنصار، وأجارني في الإسلام مؤمناً بالله مصدِّقاً بي، اللهم احفظه
وحطه واحفظ ذريته من كلِّ مكروه، وكان المراد بإجارته ثباته يوم حنين
ومسكه بالبغلة، ودعوة الناس للرجوع والقتال مع رسول الله. قال سيدنا
العباس رضي الله عنه شهدت مع رسول الله يوم حنين ولزمته أنا وأبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب فلم نفارقه والنبي عل بغلة بيضاء
فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ولزمته أنا وأبو
سفيان بن الحارث وجعل رسول الله يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ
بلجام بغلة رسول الله أكفـُّها إرادة ألا تسرع، وأبو سفيان بن الحارث
ابن عمِّ رسول الله آخذٌ بركاب رسول الله فقال رسول الله : يا عباس
ناد أصحاب السمرة، وكنت رجلا صيِّتا فصحت بأعلى صوتي: أين أصحاب
السمرة؟ فوالله لكأنَّ عطفتهم عليَّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على
أولادها ، ولما شدوا وثاقه رضي الله تعالـى عنه في أسرى بدر رجاء
إسلامه سهر رسول الله تلك الليلة، فقيل له: ما يسهرك يا رسول الله؟
فقال: لأنين العباس، فقام رجل وأرخى وثاقه وفعل هذا بالأسرى كلِّهم،
وذكر السهميُّ أن أبا رافع لما بشَّر رسول الله بإسلام العباس
أعتقه، وكان أبو رافع مولى للعباس رضي الله عنه وذكر السهميُّ في
الفضائل أن العباس أتى النبيَّ فلما رآه قام إليه وقبَّل ما بين
عينيه وقال: هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمِّه، فقال العباس: نعم القول
يا رسول الله، قال : ولم لا أقول هذا أنت عمي وصنوُ أبي ووارثي وخير
من أخلف من أهلي وفي تعظيم الناس لك واستسقاؤهم بك كما كانوا يستسقون
بي. وقال له عليه الصلاة والسلام: يا عم لا ترِمْ ـ أي لا تفارق ـ
منزلك أنت وبنوك غداً حتى آتيك فإن لي فيكم حاجة. فلما أتاهم اشتمل
عليهم بملاءة، ثم قال: يا ربِّ هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء هم أهل بيتي
فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه، فأمَّنت عتبة الباب
وحوائط البيت أي قالت آمين. وعلَّق الزرقاني على قوله وارثي في
القيام بتعلُّقاتي بعد موتي كولاية غسلي وكان سيدنا العباس ملازما
لرسول الله في المرض الذي توفِّي فيه وقد شارك هو والإمام عليٌّ رضي
الله عنهما في تجهيزه .
مقبرة البقيع
مكانته عند الصحابة
مرَّ عمر بن الخطاب بجانب بيت العباس رضي الله تعالى عنهما فقطر عليه
ميزاب العباس والميزاب هو الأنبوب الذي يصرِّف ماء المطر. فقلعه عمر
رضي الله عنه فقال العباس رضي الله عنه: والله ما وضعه حيث كان إلا
رسول الله بيده، فقال عمر رضي الله عنه: لا جرم أن لا يكون لك
سُلَّم غيري، ولا يضعه إلا أنت بيدك، قال: فحمل عمر العباس رضي الله
عنهما على عنقه فوضع رجليه على منكبي عمروصعد فوضع الميزاب. ولما
كثُر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما
حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحُجَر أمهات
المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا الفضل إن مسجد المسلمين قد
ضاق بهم، وقد ابتعتُ ما حوله من المنازل نوسِّع به على المسلمين في
مسجدهم، فأما حُجَرُ أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك
فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسِّع بها مسجدهم، فقال العباس
رضي الله عنه: ما كنت لأفعل . فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني
وبينك من شئت، فقال: أُبَي بن كعب، فانطلقا إلى أُبَي بن كعب رضي
الله عنه فقُصَّا عليه القصَّة، فقال أُبَي رضي الله عنه: إن شئتما
حدَّثتكما بحديث سمعته من النبي، فقالا: حدثنا، فقال: سمعت رسول
الله يقول إن الله أوحى إلى داؤود عليه السلام أن ابنِ لي بيتاً
أذكر فيه،فخطَّ له خطَّة بيت المقدس فدخلت في بيت رجل من بني
إسرائيل، فحدَّث داؤود عليه السلام نفسه أن يأخذها منه، فأوحى الله
إليه: يا داؤودُ أمرتك أن تبني لي بيتاً أذكر فيه، فأردت أن تُدخل في
داري الغصب وليس الغصب من شأني وإن عقوبتك ألا تبنيه، قال يا ربِّ
يبنيه ولدي، قال تعالى: ولدك،فاستجاب له. فاستشهد عمر رجالا من
الصحابة على صحة الحديث فقال للعباس:اذهب فلا اعرض لك في دارك.فقال
العباس رضي الله عنه: أما إذا فعلت فإني قد تصدَّقت بها على المسلمين
في مسجدهم أما وأنت تخاصمني فلا. لما قَدِم صفوان بن أمية بن خلف
الجُمَحي قال له رسول الله : على من نزلت؟قال: نزلت على العباس بن
عبد المطَّلب،، قال : نزلت على أشدِّ قريش حبَّاً لقريش ! ومن
الأدلَّة على ذلك أنه أجار أناساً من قريش عند فتح مكَّة خوفاً عليهم
من القتل فقبل رسول الله إجارته لهم
استسقاء الخليفة عمر به
قال ابن شهاب : كان أصحاب النبيِّ يعرفون لسيدنا العباس رضي الله عنه
فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه وكان لا يمرُّ عمر وعثمان رضي
الله تعالى عنهما إلا ترجَّلا حتى يجوز العباس رضي الله عنه، وربما
مشيا معه إلى بيته إجلالا له لأن النبي قال: احفظوني في العباس فإنه
عمي وصنو أبي، وفي رواية فإنه بقية آبائي.
وذكر ابن حجر العسقلاني في الصواعق المُحرقة أن الناس كرروا الاستسقاء
سنة سبع عشرة فلم يُسقوا، فقال عمر رضي الله عنه: لأستسقين غداً بمن
يَسقيني الله به، فلما أصبح غدا على العباس رضي الله عنه فدقَّ عليه
الباب، فقال: من؟ قال: عمر،قال: ما حاجتك؟، قال: اخرج حتى نستسقي بك،
قال: اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهَّروا والبسوا من صالح ثيابكم،
فأتوه وأخرج طيباً وطيَّبهم، ثمَّ خرج وعليٌّ أمامه بين يديه والحسن
عن يمينه والحسين عن يساره وسائر بني هاشم خلف ظهره، وقال: يا عمر لا
تخلط بنا غيرنا، ثمَّ أتى المصلَّى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه،
وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمتَ من نحن عاملون قبل أن
تخلقنا، فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا، اللهمَّ فكما تفضَّلت علينا
في أوله ، فتفضَّل علينا في آخره.قال جابر رضي الله عنه: فما برحنا
حتى سحَّت السماء علينا سحَّا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضاً فقال
العباس رضي الله عنه: أنا ابن المسقيِّ ابن المسقي بن المسقي ابن
المسقي ابن المسقي خمس مرات إشارة إلى أن أباه عبد المطَّلب استسقى
خمس مرات فسُقي وقد استسقى برسول الله وهو صبي فاستجاب الله له.
هؤلاء هم آل طه صلوات الله عليه ولقد صدق فيهم الإمام الصرصري حيث
يقول:
مُنتخبٌ من معشرٍ أكرمْ بهم من معشرِ وهم
لعمري سادةُ الناسِ بكلِّ الأعصــرِ
دأبهمو للضيفِ في المَشتاةِ نحرُ الجُزر
يحمون من حــلَّ بهم من نازلاتِ الغِيرِ
أكــفُّهم ما خُلِـقتْ إلا ليسر المُعسر
أو للرقـاقِ البيضِ أو للسمهريِّ الأسمر
ولا سعــتْ أقدامُهم إلا لكسبِ مَفْخَرِ
إمـَّــا لـدفعِ حادثٍ أو لــرقيِّ مِنبر
بـه غـدت سيرتُهم طرازَ كلِّ السيرِوهم شجرته وهم خير الشجر وعترته وهم
خير العتر وأسرته وهم خير الأسر يقول سيدنا العباس يمدح النبيَّ
عليه الصلاة والسلام:
ومن قبلُ طبتَ في الظلال وفي مستودعٍ
حيث يخـصف الـورقُ
ثمَّ هبطت البلاد لا بشرٌ أنـــ ـتَ
ولا مـضغـةٌ ولا عـلـقُ
نطفةٌ تركـب السـفين وقــد
ألـجم نسـراً وأهـلـَه الغـرقُ
تُنقلُ مـن صـالبٍ إلى رحـمٍ إذا مــضى عالمٌ بدا طــبـقُ
حتى احتوى بيتك المهيمن فـي
خـندفَ عـلياءَ دونَها النـطـقُ
وأنت لما ولـدتَ أشـرقت الأر ضُ
وضــاءتْ بنـورِك الأفقُ
ونحنُ في ذلك الضياء وفي النو
رِ وسـبلِ الرشـاد نـخـترقُ
يعني أنك طبت في ظلال الجنة حيث خصف آدم وحواء عليهما السلام عليهما من
ورق الجنة، ثم لما هـبط آدم عليه السلام إلى الأرض كنت في صلبه لم
تكن قد تخلقت بعد بالصورة البشرية ثم كنت في صلب نوحٍ عليه السـلام
في السفينة حين غرق المشـركون ومعهم أصنـامهم، ثم نقلت من الأصلاب
الطاهرة إلى الأرحام الطيبّة ونحن بنو هاشم كنا نصحـبك في هذه
الـرحلة فنحن بين الأنام كالجبل أنت أعلاه ونحـن جوانبه وسائر الناس
أسفل منا.
وفاته رضي الله تعالى عنه
توفي سيدنا العباس رضي الله عنه بالمدينة في رجب أو رمضان عام اثنين
وثلاثين في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه وشيَّعه كلُّ من حضره من
الناس بالمدينة إلى البقيع ولم يتخلَّف أحد حتى ضاق بهم الموضع ولم
يستطع بنو هاشم دفنه من شدة الزحام وتقطعت الثياب التي كُفِّن فيها
العباس رضي الله عنه حتى بعث الخليفة عثمان لشُّرطة يضربون الناس حتى
انكشفوا عن بني هاشم، فكانوا هم الذين تولَّوا دفنه رضي الله عنه.
ومشهده بالبقيع معروف مشهور وفي جواره سيدة نساء العالمين السيدة
فاطمة الزهراء رضوان الله عليها . نفعنا الله بهم وببركتهم وآل بيت
رسول الله صلى
الله عليه وسلم أجمعين.
لجنة التراث
أدق الدقائق
دخلت على الشيخ محمد
عثمان عبده البرهاني رضي الله تعالى عنه في أواخر سنيِّ عمره المبارك
وكنت طالباً بالجامعة، لم احتج إلى طرق باب البيت فقد كان بابه
مفتوحاً على الدوام يلج منه الناس آناء الليل وأطراف النهار يغترفون
من بحر علمه الغزير ويؤمونه في مختلف حوائجهم. وقد توجَّهت إلى داره
وفي نفسي أن أستشيره في أمر قد عقدتُ العزم عليه.دخلت وسلَّمتُ،
وجلست بين يديه، ثمَّ توجَّهت إليه بالسؤال التالي: يا مولاي أحببتُ
أن أطلع على تفاسير القرآن لأعرف ما فيها وأعرف آراء المفسرين
واختلافاتهم حول تفسير القرآن الكريم. فنظر إليَّ رضي الله عنه وقال:
أعد هذا الكلام عليَّ، فأعدته عليه، ثم قال:أعده مرةً أخرى، فأعدته
عليه وقد أوجست خيفةً من طلبه إعادة الكلام أكثر من مرة، وثارت في
نفسي الهواجس قال: وهل درستَ فقه العبادات؟ قلت: كلا.قال: إن الواجب
عليك هو دراسة فقه العبادات لتعرف كيف تؤدي شعائر دينك. لقد لفت
الشيخ رضي الله تعالى عنه نظري إلى حقيقة مهمة وهي وجوب أن يبدأ
المريد بدراسة العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج، لأنها لازمة لمرتبة
الإسلام التي هي أول المراتب وبغير علم العبادات لا تتحقق له هذه
المرتبة. ولذا كان دأب الشيخ رضي الله عنه أن يعلم المريدين فقه
العبادات وخصَّص ساعات كلَّ أسبوع يدرس فيها الإخوان الفقه وما زال
الاهتمام بالفقه جارياً في كلِّ الزوايا تحت رعاية مولانا الشيخ
إبراهيم رضي الله عنه، ونحن نرى الآن كثيراً من الناس يتكلَّمون في
التفسير وفي الإعجاز العلمي وفي تاريخ الإسلام ويؤلفون الكتب في هذا
وليس لهم علم أو اهتمام بفقه العبادات الذي لا تصحُّ العبادة إلا به،
وهذا من باب ترك الأولى فعلى كلِّ مريد أن يبدأ سلوك الطريق بهذا
العلم وفي هذا تحقيق لقول الإمام مالك رضي الله عنه من تصوَّف ولم
يتفقَّه فقد تزندق.
أحمد البدوي |