التصوّف بين الدين والدولة

كلمة العدد

الأيام الأخيـرة من العمر المبارك

 

التصوّف بين الدين والدولة

لقد استقرَّ في أذهان الكثيرين من الناس أن التصوَّف دعوة إلى ترك كلِّ أمرٍ دنيوي والتفرُّغ للعبادة تفرّغاً كاملا وتجنُّب الاشتغال بالسياسة، وكيف يقال هذا والتصوّف هو الذي حمل نور الإسلام واستطاع أن ينشر الدعوة الإسلامية في مجاهل آسيا وأفريقيا وأوربا. وقد تعرَّض رجال التصوف لكلِّ ضروب العناء وكابدوا الأخطار من أجل نشر الدعوة، وهم الذين وقفوا سدَّاً منيعاً في وجه تيَّارات الإلحاد ووثنية الأتراك وأطماع الصليبيين وطغيان الاستعمار وكانت لهم المواقف المشهودة في الوقوف في وجه كلِّ خطرٍ يحدق بالإسلام. ونحن نريد أن نتناول في هذه الزاوية من الصحيفة هذه المواقف السياسية المشرِّفة في هذا العدد وأعدادنا القادمة. ونقتصر في زاوية اليوم على المواقف السياسية التي وقفها الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه إبان فترة تولّيِه الخطابة والقضاء بدمشق والقاهرة. في عام 356 هـ أيام الحروب الصليبية أذِن الحاكم الصالح إسماعيل للفرنجة في دخول دمشق وشراء السلاح فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق ، فأنكر المسلمون ذلك ومشى المسلمون منهم إلى العلماء واستفتوهم، فأفتى الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه بتحريم بيع الأسلحة وأوقف الدعاء للصالح إسماعيل على المنبر وجعل بدلاً منه (اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تُعزُّ فيه أوليائك وتذلُّ فيه أعدائك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك) فعزله الملك الصالح واعتقله ثمَّ أمره أن يلزم داره. وعندما سلَّم أحد حكَّام المماليك قلعة صفد إلى الصليبيين دعا الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى القبض على المماليك وبيعهم في الأسواق وضمِّ أثمانهم إلى بيت المال لأنَّ صلاح الدين لم يعتقهم وقد فعل هذا غضباً لله تعالى. وفي عام 756هـ عُقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور حضره الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه وسئل عن أخذ أموال العامة ونفقتها في الحرب فقال للملك: إذا لم يبق في بيت مال المسلمين شيءٌ وأنفقتم الأموال والذهب وغيرها من الزينة وساويتم العامة في الملابس غير آلآت الحرب ولم يبق للجنديِّ إلا فرسه التي يركبها ساغ أخذ شيءٍ من أموال الناس في دفع الأعداء إلا أنه إذا دهم العدو البلاد وجب على الناس كافةً دفعه بأموالهم وأنفسهم، وفي عام 936هـ ولِّي الشيخ رضي الله عنه قضاء مصر وفي عام 946 هـ بنى الوزير معين الدين بناء لأعوانه على سطح مسجد بالقاهرة فبلغ ذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام، فأنكر عليه ذلك، ومضى بنفسه ومعه أولاده حتى هدم البناء وأزاله من على السطح، وأسقط شهادة الوزير معين الدين في المحاكم وجعله ممن لا تقبل شهادتهم، فأدَّى هذا إلى عزله عن القضاء وإجباره على لزوم البيت ، وكان الشيخ رضي الله عنه شديد الانتقاد للظاهر بيبرس رغم أنه بايعه ورغم مواقف الظاهر بيبرس العظيمة في الجهاد ضدَّ الصليبيين وضدَّ الباطنية، ولما توفي الشيخ العز بن عبد السلام رضي الله عنه في عام 660 هـ قال الظاهر بيبرس: الآن استقرَّ ملكي. وهذه المواقف دلَّت على أن مشائخنا رضي الله عنهم لم يكونوا يقفون بمعزل عن الأحداث السياسية الكبرى، ولم يكن حرصهم على المناصب يجعلهم يتغاضون عن هفوات الحكام وتجاوزاتهم .

محمد صفوت جعفر

 

كلمة العدد

تطلُّ علينا هذه الأيام الذكرى السنوية العطرة للعارف بالله الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله عنه الرجل الذي استطاع أن يرفع لواء الطريقة البرهانيَّة في كلِّ أرجاء المعمورة وهو جالسٌ على كرسيِّه في منزله في الخرطوم مرتدياً الزي السوداني البسيط الذي يرتديه الفلاحون والبسطاء، هكذا كان يراه عامَّة الناس، أما أهل الكمالات والكشف والاطلاعات فكانوا يرونه في حضرة الحق، متلثِّما بلثام الصمديَّة، مؤتزرا بإزار الأحديَّة، مترديَّاً رداء الجلال، متوَّجاً بتاج الحسن والجمال، قال فيه رجلٌ من الدعاة الإسلاميين: درستُ كلَّ الدعاة الإسلاميين المعاصرين فلم أر رجلا استطاع أن ينشر طريقته في العالم وليس له من وسيلةٍ إلا تلك القوَّة الروحية التي تستطيع أن تطوي المسافات لتؤثر في الناس على اختلاف طوائفهم وعقائدهم وثقافاتهم لتجعل منهم رجالا مخلصين في عقيدتهم متفانين في محبَّة شيخهم، وقد رأيت الجماعات الإسلامية التي تسخِّر الإمكانات الضخمة في سبيل الدعوة للإسلام في تلك البقاع ولا تبلغ معشار ما بلغه هذا الرجل.

أسرة التحرير

 

الأيام الأخيـرة من العمر المبارك


منزل مولانا الشيخ محمد عثمان

مضت عشرون عاماً منذ غيَّب التراب جسدك الطاهر عنا وعشناها أياماً ما كان أقساها علينا وما أبقاها في ذاكرتنا فقد كنت الأخ والأب والحبيب وبني للأحباب بيت سقفه الأسى وجدرانه الأحزان.

في الساعة الخامسة صباحاً في اليوم الرابع من أبريل 1983م صعدت النسمة الطاهرة إلى بارئها على سرير القرب من الله تعالى ولنعد إلى البداية ففي عام 1974 رأى الشيخ سيد احمد قرافي رؤيا أولَّها بانتقال الشيخ إلى الدار الآخرة وذهب إلى الشيخ وهو يبكي، ولما طرق الباب كان الشيخ يتوضَّأ للصلاة ففتح له الباب وسأله عما به فلم يجب من شدَّة البكاء فرشَّ عليه الشيخ  من ماء الوضوء فهدأ ونام وعندما استيقظ من النوم، سأله الشيخ رضي الله عنه عن سبب بكائه فأخبره بالرؤيا فقال له الشيخ رضي الله عنه مطمئناً لا يزال اليوم الذي سانتقل فيه إلى الدار الآخرة بعيداً وعندما تحين وفاتي ستكون أنت بالقرب مني. وحدث هذا فقد حضر الشيخ سيد احمد في الوقت الذي حدثت فيه الوفاة، وطيلة الأيام التي كان فيها جسد الشيخ مسجَّى على الفراش كان الشيخ سيد احمد قرافي يرقد بجانب السرير إلى أن نقل الجسد الطاهر إلى المقام الحالي.

    كان أمينه مولانا الشيخ إبراهيم أوَّل من عرف حين دعاه وأوصاه وأخبره بأن لقاء الله تعالى وشيك فأبى الأمين أن يستلم الأمانة لأن وقت استلامها لم يحن بعد، ولكن الشيخ أخبره بأن الأمر قد أُبرم وعليه أن يستعدَّ لحمل الأمانة،وطافت روحه على كلِّ مريد صادق ونعى نفسه إليهم في مصر وفي السودان ومنهم من جاء من جنوب السودان قبيل الوفاة وذكر أن الشيخ قد جاءه ونعى إليه نفسه، وأما السيدة زينب الرفيقة الصالحة التي احتملت مشاق الدعوة منذ بدايتها فقد أخبرها بالأمر وسألها أن تأتيه بثيابه الجديدة التي ادَّخرها لهذا اليوم ودخل الحمام وتطهَّر واغتسل وقلَّم الأظافر ولبس الثوب الجديد، فعل كلَّ هذا وهو مستبشرٌ، ثمَّ رقد على فراشه وأمرها أن تغطيه بثوب أبيض، وامتثلت السيدة المؤمنة الطائعة ولبَّت الأمر ـ رغم أن هذا الأمر يشقُّ على كلِّ امرأة ـ وغطَّته وفاضت الروح الطاهرة إلى بارئها لا سكرات موتٍ ولا حركةٌ ولا صوت، وأخطر الأمين فحضر بثباته المعروف وكفى ما قاله الشيخ فيه:

سألت رسول الله من فضل ربِّه       ليجعل عزمي في فتيِّ السواعد

 وحضر الإخوان والأهل وحضر الطبيب،وكان القوم بين تكذيب وتصديق فلا نبض ولا نفس والقلب ساكن لا يخفق ولكن الجسد دافيء كأنما تجري فيه الحياة والأطراف ليِّنة لم يلحقها ذلك التيبُّس الذي يصيب أعضاء الميِّت والوجه يطفح بالبشر،.وأخيراً ثبت عندهم الموت وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان لسان حاله يقول كما قال الشيخ السهروردي رضي الله عنه:

قل لأصــحابٍ رأوني ميِّتا        فبكـوني إذ رأوني حزنا

لا تظــنوني بأنــي ميِّت       ليس ذا الميِّــت والله أنا

أنا عصفــورٌ وهذا قفصي        طـرتُ عنه فتخلَّى وهنا

فاخلعوا الأنفسَ عن أجسادها        فتـرون الحـقَّ حقَّاً بيِّنا

لا ترُعْكُم سكرةُ الموتِ فـما       هي إلا بانتقالٍ مـن هـنا

ولما تيَّقنوا من الموت تمَّ الغسل والتكفين،وأجِّل الدفن حتى يتمكَّن الأخوان الذين يأتون من الأماكن البعيدة من حضور الدفن، ومرَّ اليوم الأوَّل والثاني والجسد مسجَّى وخاف بعض الأقربين من تغيُّر الجسد فجاءوا بالثلج وأحاطوا به الجسد، فيجيء صوت الشيخ رضي الله عنه يهيب بابنه الشيخ الحسين : أميطوا هذه الأقذار عني. فيُهرع الشيخ الحسين ويلقي بالثلج خارجا، وقد أخبر الإخوان الذين حضروا أنَّ وجهه كان يزداد نضارةً كلَّ يوم وكأنه سيعود شابَّا،وهذا مما أكرم الله به هذا الجسد الصابر الذي ألف السهر والعبادة والصوم،كيف وقد شهد أصحابه الذين لازموه طويلا أنهم لم يروه نائما قط.

وذاع النبأ الأليم وتدفَّق المريدون، وعلى كلِّ وجهٍ سهوم الحزن وفي كلِّ قلبٍ لهيب الحسرة فمصابهم واحد وحزنهم مشترك، وأخطر زعماء الطرق الصوفية الذين جاءوا من كلِّ حدبٍ وصوب وقد راعهم النبأ وسارٍوا بالجسد من المنزل إلى المقام الحالي يرفعون الأعلام ويتلون الأذكار، وكان خط السير الذي سار فيه الموكب وهو نفس خطِّ السير الذي تسير فيه الزفَّة في الحولية كلَّ عام.وقد حكى الشيخ سيد احمد قرافي شيئاً من الكرامات التي وقعت بعد الوفاة وقبل الدفن فقد حضرت فتاتان ألمانيَّتان من ألمانيا عبر مصر ولما وصلتا للسودان عرفتا بوفاة الشيخ، فطلبتا الدخول إلى الغرفة التي سجِّي فيها ولما دخلتا طلبتا من المرحوم د. محمود السنهوري كشف وجه الشيخ حتى ينظرا إليه،فرفع الأمر للشيخ سيد احمد الذي استجاب وكشف الثوب عن وجهه، فنظرتا إلى وجهه ثم بدا الجزع والحزن عليهما وجلستا على الأرض، ثم قالتا للشيخ سيد احمد قرافي: إنما طلبنا رؤية وجهه لأن رجلا جاءنا في ألمانيا وأعطانا الطريقة وأُخْبِرنا بأنه قد يكون الشيخ محمد عثمان عبد البرهاني، وأردنا التأكد وفعلا هذا هو الرجل الذي أعطانا الطريقة في ألمانيا، ومعلوم لدى الجميع أن الشيخ لم يزر ألمانيا في حياته.

وقد كان الشيخ رضي الله عنه كلَّما زار المكان الذي دفن فيه يقول مستبشرا:هذا بيتي. ولم يكن الإخوان يفهمون هذه الإشارة وكان يشير إلى المكان الذي سيكون فيه مرقده، ويذكِّرنا هذا بقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي لتلميذه الشيخ أبي العباس المرسي رضي الله تعالى عنهما وهما يتأهَّبان لرحلة الحج التي توفِّي فيها الشيخ أبو الحسن الشاذلي: في حميثرا سوف ترى.

 وقد حدث لكثير من الصالحين وقوع الكرامات عند الموت فقد جاء في حديث ربعي بن خراش وكان من كبار التابعين وهو ممن تكلَّم بعد الموت؛ قال: لما مات أخي سُجِّي بثوبه وألقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه، واستوى جالساً وقال: إني لقيت ربي عزَّ وجلَّ فحياني بروحٍ وريحان وربٍّ غير غضبان، وإني لقيت الأمر أيسر مما تظنُّون، ولا تغترُّوا فإنَّ محمداً  ينتظرني وأصحابه ثمَّ طرح نفسه فحملناه فدفنَّاه. وجاء في طبقات الصوفية للشيخ أبي عبد الرحمن السلمي: قال: سمعتُ أبا الحسن القزويني يقول: سمعت أبا الحسين المالكي يقول: سألتُ من حضر موت خير النسَّاج قال: لما حضرته صلاة المغرب غُشي عليه، ثمَّ فتح عينيه وأومأ إلى ناحية باب البيت وقال: قف، عافاك الله ! إنما أنت عبدٌ مأمور وأنا عبدٌ مأمور، وماأُمرتَ به لا يفوتك، وما أُمرتُ به يفوتني، فدعني أمضي فيما أُمرتُ به، ثمَّ امض لما أمرتَ به، فدعا بماءٍ فتوضَّأ، وصلَّى، ثمَّ تمدَّد وغمَّض عينيه ومات، فهو يستأذن ملك الموت ليمهله حتى يصلِّي المغرب.أما عدم تغيُّر أجساد الأنبياء والصالحين بعد الموت فثابت، وقد روي أن سيِّدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما استشهد دفن ومرَّ على موته بضعة أشهر، فرأته ابنته السيدة عائشة بنت طلحة رضي الله تعالى عنها في المنام يقول لها: يا بنيَّة أنقذيني من هذا الماء الذي يؤذيني، وظنَّتها أضغاث أحلام ولكنَّ الرؤيا تكررت، فأخذت بعض غلمانها وحفرت القبر وأخرجت الجسد فرأوا الشق الأيمن من جسده مغموراً في الماء حتى صار أخضر، وكانت الأرض ذات نزٍّ وكان جسده بحاله لم يتغيَّر فأخرجوه وغسلوا جسده جيِّدا حتى أزالوا منه تلك المادة الخضراء ولم يتأثر الجسد بكلِّ هذا، ثمَّ اشترت مكاناً في البصرة ودفنته فيه. وهذا مما يُعزُّ به الله تعالى عباده المحسنين وقال سيدي إبراهيم الخوَّاص: على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله، يلبسه الله تعالى من عزِّه، ويقيم له العزَّ في قلوب المسلمين. إن الذي ذكرناه لهو نزر يسير من الكرامات التي شاهدها الناس في تلك الأيام الحزينة وقد سألناهم جميعاً فمنهم من باح ومنهم من رفض أن يبوح بما رأى وشاهد وفضَّل الصمت، وقد رأينا أن نؤرِّخ لهذا الحدث كما أرَّخنا لغيره في حياة الشيخ رضي الله عنه وهو يوم كرامته الكبرى، يوم قدومه على ربِّه، وهذه آياته بيننا وهذا هديه باق:

وإنِّي وأيم اللهِ ما غبتُ عنكم        وعاريتـي ردَّت لــربِّ البريَّةِ

وأثناء مواراة الجسد الطاهر التراب تمَّت مبايعة وارث المقام الشيخ إبراهيم رضي الله عنه ليتولّى الخلافة ويحمل أعباء الدعوة:

 وما رشد إبراهيم إلا تتمةً         بها أكمل المولى جزيل العطية

 ولم ينطوِ الذكر بالموت بل ظلَّ مقامه الكائن بالخرطوم قبلة المريدين والمريد ين ووجهه القاصدين من كل حدب و صوب لما فيه من البركات العظام و العطايا الجسام.

شرف الدين ميرغني