سيد أبو طالب رضي الله تعالى عنه

أدق الدقائق

 

سيِّدي أبو طالب رضي الله تعالى عنه

من المباحث الهامَة التي أشار إليها سيِّدي فخر الدين في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة) ذكر إيمان سيِّدنا أبي طالبٍ عمِّ رسول الله  ونحن نأمل في هذه الأسطر أن نلقي الضوء على هذه المسألة لنزيل كثيراً من الأوهام التي نشرها أهل العقائد الفاسدة الذين خلت قلوبهم من الورع فلم يراعوا التثبُّت في أقوالهم.

هو عمُّ رسول الله  وكافله بعد وفاة جدِّه عبد المطَّلب قيل اسمه عبد مناف بن عبد المطَّلب وقيل اسمه عمران، وقيل اسمه أبو طالب وكنيته أبو طالب ولما تُوفِّي جدُّ رسول الله  أوصاه بحفظ رسول الله  ورعايته. ولد قبل المولد الشريف بخمسٍ وثلاثين سنة على ما ذكر ابن حجر العسقلاني. وقد خلف أباه في في بني هاشم خاصةً وقريش عامة فكان شيخهم والمطاع فيهم ورئيس مكة الذي كانت قريش تُسمِّيه الشيخ.

تزوَّج السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها، وكانت أوَّل هاشمية ولدت لهاشمي، وهي التي ربّت رسول الله   وكان يدعوها أمِّي، وكان يوجب حقَّها كما يوجب حقُّ الأم، وكانت امرأةً صالحة وكان رسول الله  يزورها ويقيل في بيتها، وهي أول امرأة بايعت رسول الله  من النساء وأسلمت بعد عشرةٍ من المسلمين وكانت الحادي عشر، وهاجرت إلى المدينة المنوَّرة فيمن هاجر إليها من المسلمين والمسلمات، وأدركتها الوفاة في دار الهجرة، فصلَّى عليها رسول الله  ، وألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها،، فقال أصحابه: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه، فقال إنه لم يكن أحد أبرَّ بي منها بعد أبي طالب رضي الله عنه، إنما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنة، واضطجعتُ معها ليهوِّن عليها ضغطة القبر.

ولما تولى أبو طالب رضي الله عنه كفالة رسول الله  قام بأمره على أفضل وجه وأكمله، وكان يحبّه حباً شديداً لا يحبُّه ولده، ويخرج فيخرج معه، وكان يخصُّه بالطعام، ولما أراد أن يخرج في تجارته إلى الشام تعلَّق به رسول الله  ، فرقَّ له أبو طالب رضي الله عنه وقال والله لأخرجنَّ به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. وخرج به معه.وهي الرحلة التي رآه فيها الراهب بحيرا.

تحمَّل في سبيل الرسالة ونصرة الرسول  كلَّ صنوف الأذى وجاهد في سبيل الدعوة فلم يدَّخر وسعا، ولما رأت قريش أنه لا سبيل لهم للنيل من رسول الله   اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشمٍ وبني عبد المطَّلب، على ألا يتزوَّجوا منهم ولا يزوِّجوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا هذا في صحيفةٍ وعلَّقوها في جوف الكعبة. فمكثوا على هذا سنتين أو ثلاثا وصبروا ولما أكلت الأرضة الصحيفة التي كتبوها كان أبو طالب رضي الله عنه هو الذي أخبر قريشاً بهذا.قال ابن إسحاق: كان أبو طالب رضي الله عنه للنبي  عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه. وقال: لم يزل أبو طالب رضي الله عنه ثابتا صابراً على نصر رسول الله   وحمايته والقيام دونه حتى مات.وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:أبو طالبٍ هو الذي كفل رسول الله   صغيرا، وحماه وحاطه كبيرا، ومنعه من مشركي قريش، ولقي لأجله عنتاً عظيما، وقاسى بلاءً شديدا، وصبر على نصره والقيام بأمره. وكانت وفاته بعد خروجه من الشعب بثمانيةٍ وعشرين يوما في السنة العاشرة من مبعثه . وله من العمر بضعة وثمانون سنة وقيل تسعون.

إيمانه

اختلف الناس في إيمان أبي طالب رضي الله عنه ونحن نورد هاهنا بعضاً من هذه الأقوال روى ابن إسحاق : لما تقارب من أبي طالبٍ الموت نظر إليه العباس رضي الله عنه يحرِّك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها (يعني بها الشهادتين) فقال رسول الله  : لم أسمع وقال: وقد روي بأسانيد كثيرة بعضها عن سيدنا العباس بن عبد المطَّلب وبعضها عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أنَّ أبا طالبٍ رضي الله عنه ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، والخبر المشهور أنَّ أبا طالبٍ رضي الله عنه عند الموت قال كلاما خفياً فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله  ، فقال: يا بن أخي والله لقد قالها عمُّك ولكن ضعف أن يبلغك صوته  وروي عن عليٍّ كرَّم الله وجهه: ما مات أبو طالبٍ  رضي الله عنه حتى أعطى رسول الله  من نفسه الرضا.وفي طبقات محمد بن سعد قال علي كرَّم الله وجهه: أخبرت رسول الله  بموت أبي طالب رضي الله عنه فبكى ثمَّ قال: اذهب فغسِّله وكفِّنه وواره، غفر الله له ورحمه، قال ففعلت وجعل رسول الله  يستغفر له.وفي رواية وفي رواية أخرى: ان أبا طالب رضي الله عنه لما مات جاء عليٌّ إلى رسول الله  فآذنه بموته فتوجَّع عظيماً وحزن شديداً ثم قال له: امض فتولَّ غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل فاعترضه رسول الله  وهو محمول على رؤوس الرجال فقال: وصلتك رحمٌ يا عمِّ وجُزيتَ خيرا، فلقد ربَّيتَ وكفلتَ صغيرا، ونصرتَ وآزرتَ كبيرا، ثمَّ تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال: أما والله لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنَّ فيك شفاعةً يعجب لها الثقلان. وقد فهم المحققون من هذا النص إيمانه وصدق اعتقاده لأن المسلم لا يجوز أن يتولَّى غسل الكافر، ولا يجوز للنبيِّ أن يرقَّ لكافر، ولا أن يدعو له بخير ، ولا أن يعده بالاستغفار والشفاعة، وإنما تولَّى عليٌّ غسله لأن طالباً وعقيلا لم يكونا أسلما بعد ، وكان جعفر بالحبشة، ولم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد، ولا صلَّى رسول الله  على خديجة رضي الله تعالى عنها، وإنما كان تشييع ورقة ودعاء. وقال الشيخ معلِّقا: ومما يؤيد التحقيق الذي حققه العلامة البرزنجي في نجاة أبي طالب رضي الله عنه أن كثيراً من العلماء المحققين وكثيرا من الأولياء العارفين أرباب الكشف قالوا بنجاة أبي طالب رضي الله عنه منهم القرطبي والسبكي والشعراني. وقال بعد أن سرد هذه الأحاديث: وهذا الذي اخترناه من نجاة أبى طالب (لما كان عنده من التصديق الكافي في النجاة في الآخرة، هو طريق المتكلِّمين من أئمتنا الأشاعرة، وهو ما دلَّت عليه أحاديث الشفاعة، وأحاديث الشفاعة كثيرة وكلُّها فيها التصريح بأنها لا تنال مشركا، وقد نالت الشفاعة أبا طالب رضي الله عنه ـ كما مرَّ ـ فدلَّ ذلك على عدم إشراكه.وقال العباس: يا رسول الله أترجو لأبي طالب؟ قال :كلَّ الخير أرجو من ربي، قال الإمام البرزنجي معلِّقا: ورجاؤه  محقق ولا يرجو كلَّ الخير إلا لمؤمن. وجاء في طبقات ابن سعد: سُئل الإمام علي بن الحسين رضي الله عنه عن إيمان أبي طالب رضي الله عنه وكفره: فقال: واعجبا، إنَّ الله تعالى نهى رسوله أن يُقرَّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب رضي الله عنه حتى مات.

وقالوا إنَّ أشعار أبي طالب رضي الله عنه تدلُّ على أنه كان مسلماً ولا فرق بين الكلام المنظوم والمنثور إذا تضمَّنا إقراراً بالإسلام، ألا ترى أن يهودياً لو توسَّط جماعةً من المسلمين ، وأنشد شعراً قد ارتجله ونظمه، يتضمَّن الإقرار بنبوَّة محمد  لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

وكان يقول: والله ما كذب ابن أخي قط، وله شعرٌ كثيرٌ يدلُّ على إيمانه ـ يقول مخاطباً قريش

فلا تسفهن أحلامكم في محمـدٍ        ولا تتبعوا أمر الغواة الأشائم

يمنونكم أن يقــتلـوه وإنمـا       أمانـيُكم فـيه كأحـلام نائم

أمين محَبٌ في العباد مســوَّمٌ        بخاتم ربٍّ قاهرٍ للخــواتم

يرى الناس برهاناً عليه وهيبةً        وما جاهلٌ أمراً كآخر عـالم

 وقال:

إنَّ الأمينَ محــمداً في قومه        عــندي يفوق منازلَ الأولاد

وقد تحدَّث فيها عن البشائر التي سبقت بعثته .وقال يخاطب قريشا:

أتبغون قــتلا للنــبيِّ محمدٍ        خُصِصتُمْ على شؤمٍ بطول أثامِ

وفي كثيرٍ من أشعاره يشهد بنبوَّة سيِّدنا محمد .

وذكر الإمام أحمد بن الحسين الموصلي الحنفي المشهور بابن وحشي في شرحه على الكتاب المسمَّى بشهاب الأخبار للعلامة محمد بن سلامة القضاعي المتوفَّى سنة 454هـ: إنَّ بغض أبي طالبٍ كفرٌ. ونصَّ على ذلك أيضاً من أئمة المالكية العلامة علي الأجهوري في فتاويه، والتلمساني في حاشيته على الشفا عند ذكر أبي طالب رضي الله عنه: لا ينبغي أن يُذكر إلا بحمايته للنبي ، لأنه حماه ونصره بقوله وفعله، وفي ذكره بمكروه أذية للنبيِّ  ومؤذي النبيِّ كافر، وقال أبو الطاهر: من أبغض أبا طالب فهو كافرٌ. وذهب الإمام النبهاني إلى هذا فقال في همزيته يصف أبا طالب رضي الله عنه:

ولدى الاحتضـار أسدى قريشا      خير نصحٍ فلم يكن إصـغاءُ

أوضح الحقَّ في كــلامٍ طويل       كان في قلبِهِ علـيه انطـواء

ومضى راشـداً وقد أسـمـع      العبـاسَ قولا به يكونُ النجاء

 وقد تعرَّض الإمام النبهاني في هذه الأبيات إلى وصية أبي طالب رضي الله عنه وقد جاءت هذه الخطبة في الروض الأنف للسهيلي والسيرة الحلبية وأسنى المطالب ونصُّها: (يامعشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدام الشجاع واسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفاً إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس ولهم به إليكم الوسيلة والناس لكم حزب، وعلى حربكم ألبٌ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيَّة ـ يعني الكعبة ـ فإنَّ فيها مرضاةً للرب، وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، وصلوا أرحامكم، ولا تقطعوها فإنّ صلة الرحم منسأةً للأجل، وسعةَ في العدد واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، وأجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإنَّ فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبةً في الخاص ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريشٍ والصدِّيق في العرب، وهو الجامع لكلِّ ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمرٍ قَبِلَه الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وأيمُ اللهِ كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الوبر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدَّقوا كلمته، وعظَّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خراباً وضعفاؤها أربابا، قد محضته العربُ ودادَها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش،هو ابن أبيكم كونوا له ولاةً، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحدُ سبيله إلا رشُد ولا يأخذ أحد بهدْيِه إلا سعِد، ولو كان لنفسي مـدةٌ ولأجـَلي تأخير لكففتُ عنه الهـزاهز (الفتن والحروب)، ولدفعتُ عنه الدواهي، ثمَّ توجَّه بكلامه إلى بني عبد المطَّلب فخصَّهم بوصيَّة جاء فيها: لن تزالوا بخير ما سمعتُم من محمد، وما اتَّبعتم أمره فأطيعوا ترشدوا)  وفي هذا النص إقرار بنبوَّة سيدنا محمد (ودعوةٌ لقريش للإيمان به والتصديق بدعوته. جزى الله سيِّدنا أبا طالب رضي الله عنه خير الجزاء عن نبيِّنا محمد  وعن أمة الإسلام فقد كان من الدعامات التي قام عليها هذا الدين الحنيف.ونحن نختم هذا الحديث بنصيحة عامة للمسلمين قالها القوك وهي: إدخال الف كافر بالغلط في الاسلام و لا اخراج مسلم واحد.

د. عبدالله محمد احمد

 

أدق الدقائق

 دخل رئيس تحرير صحيفة سودانية على سيِّدي فخر الدين رضي الله تعالى عنه وأعرب عن رغبته في توجيه بعض الأسئلة للشيخ رضي الله تعالى عنه فرحَّب به الشيخ فابتدره بالسؤال التالي: هل هناك خلاف بين الطرق الصوفية؟ فقال الشيخ رضي الله عنه:

كم بين حذَّاق الجدال تنافرٌ       وكم بين عشَّاق الجمال تنازعُ

ولم يدع هذا الرجل الشيخ رضي الله عنه يسترسل في الإجابة فبادره بقوله: تكفيني هذه الإجابة. ونخرج من هذا الجدال القصير جداً بعدة نتائج:

أولاً: أن الرجل سأل مستفيداً ولم يسأل متعنُّتاً وكان صادقاً في طلب المعرفة ولما سمع الحقَّ عرفه ولم يجادل فيه وهذه علامة من علامات الصدق وقد نهى القوم عن الجدل وقالوا: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح عليه باب العمل وأغلق عليه باب الجدل.

ثانياً: بيَّن الشيخ حقيقةً تحدَّث عنها القوم قديما وهي أن النفوس غير متشابهة في خلقها الأوَّل ونظرتها إلى الأمور مختلفة، ومقاماتهم ودرجاتهم متفاوتة وقد اختلف أصحاب رسول الله  في حياته حول مسائل وأقرَّ كلَّ واحد في ما ذهب إليه، وهذه الخلافات تكون في الفروع أما الأصول فلا خلاف عليها، وقال بنان الحمالي: إن الله تعالى خلق سبع سموات، في كلِّ سماء له خلق وجنود، فطاعة أهل السماء الدنيا على الخوف والرجاء، وطاعة أهل السماء الثانية على الخوف والحزن، وطاعة أهل السماء الثالثة على المِنة والحباء، وطاعة أهل السماء الرابعة على الشوق والهيبة، وطاعة أهل السماء الخامسة على المناجاة والإجلال، وطاعة أهل السماء السادسة على الإنابة والتعظيم، وطاعة أهل السماء السابعة على المنَّة والقربة فانظر كيف اختلفت أحوالهم مع الله تعالى:

وكلُّ فتىً على مقدارِ ما قد         سقاه بكفِّهُ الساقي يغني

وقال الشيخ رضي الله عنه:

قلت المعاني في عظيم بنائها        كلٌّ يرى قولي على مرآته

 ثالثاً: إن الخلاف داعية إلى الاجتهاد لأن الصوفية ينتقدون بعضهم البعض أكثر مما ينتقدهم الآخرون لذلك قالوا: لا يزال الصوفية بخير ما اختلفوا. لأنهم إذا اختلفوا ظهرت العيوب فعملوا على إصلاحها، وروي أنَّ الإمام الجنيد قال للإمام الشبلي رضي الله تعالى عنهما: لو رددتَ أمرك إلى الله لاسترحت. قال الشبلي رضي الله عنه: يا أبا القاسم لو ردَّ اللهُ أمرك إليك لاسترحت.قال الإمام الجنيد رضي الله عنه: سيوف الشبلي تقطر دما.وهكذا القوم هم في خوف دائم من التقصير وبحث دائب للترقي في المقامات.

البسطامي