الحـث عـلـى كـثـرة الـذكــر
الله سبحانه وتعالى قد حثنا بشكل متكرر فـي
القرآن الكريم على الذكر والإكثار منه مرغِّباً فـي الذكر مادحاً
أهله ومرهباً من تركه وذامّاَ للغافلين، ويتكرر هذان الشكلان كثيراً
وكأنها أهم وصايا الله لعباده تتكرر بين الحين والحين مختلفة بين
الترغيب والترهيب وذلك لأن صلاح حال الأمة بصلاح أبنائها وصلاحهم
بصلاح قلوبهم.
وسنتعرض فـي هذا الفصل لبعض هذه الآيات ومن ثَمَّ نرى ما هي آراء أهل
التفسير فيها راجين الله أن يظهر ذلك المعنى ليكون محثاً لنا على
الإكثار من ذكر الله تعالى، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم
مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فـي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق}البقرة 200.
قال بن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد
قضاء المناسك وفراغها، وقوله {كذكركم آباءكم} اختلفوا فـي معناه فقال
عطاء: هو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر
اللّه بعد قضاء النسك. وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون فـي
الموسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل
الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل اللّه على محمد صلى الله
عليه وسلم: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}، والمقصود منه
الحث على كثرة الذكر للّه عزّ وجلّ.
قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فـي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ
تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين} الأعراف 205.
قال بن كثير فـي تفسير الآية: وفـي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي
اللّه عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء فـي بعض الأسفار فقال لهم
النبي صلى اللّه عليه وسلم: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم
لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم
من عنق راحلته، وقد يكون المراد من هذه الآية كما فـي قوله تعالى:
{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}، فإن المشركين
كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من جاء به، فأمره اللّه تعالى أن
لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا
يسمعهم، ليتخذ بين الجهر والإسرار، والمراد الحض على كثرة الذكر من
العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة
الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: {إن الذين عند ربك لا
يستكبرون عن عبادته} الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدي بهم فـي كثرة
طاعتهم وعبادتهم،قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ
آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ
رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ} آل عمران 401.
قال الإمام القرطبي عند تفسيره للآية: قوله تعالى: {واذكر ربك كثيرا
وسبح بالعشي والإبكار} أمره بألا يترك الذكر فـي نفسه مع اعتقال
لسانه؛ على القول الأول. وقد مضى فـي البقرة معنى الذكر، وقال محمد
بن كعب القرظي: لو رخص لأحد فـي ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز
وجل: {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا} ولرخص
للرجل يكون فـي الحرب بقول الله عز وجل: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا} الأنفال54 وذكره الطبري (وسبح) أي صل؛ سميت
الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و(العشي) جمع
عشية، وقيل: هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب؛ عن مجاهد.
وفـي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون
الظهر بعشي (والإبكار) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، قال تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا
وَقُعـُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ
فَأَقِيمـُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} 103 {وَلاَ تَهِنُواْ فـي
ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُـواْ تَأْلَمــُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمـُونَ كَمَا تَأْلَمـونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ
يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}401 النساء قال الإمام
القرطبي عند تفسيره: قوله تعالى:(قضيتم) معناه فرغتم من صلاه الخوف
وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته...
وللحديث بقية.
أحمد عبد المالك |