هل من سائل فيجاب؟

الحـث عـلـى كـثـرة الـذكــر

 

هل من سائل فيجاب؟

ورد إلينا من المهندس شرنوبي محمد علي من سنجه السودان استفسار عن معنى الآية {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} سورة البقرة الآية: 48، والآية {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} سورة الأنعام الآية: 51 وقال إن جماعة أنصار السنة ينكرون الشفاعة استدلالا بهذه الآيات.

كما ورد إلينا من القارئ فارس غندور صائغ وجواهرجي حي المزرعة بيروت لبنان يقول فيها أنه قرأ لأحد مشاهير الكتاب المصريين وصاحب برنامج تلفزيوني شهير أن هناك أكثر من مائة وخمسين آية فـي كتاب الله تنكر الشفاعة، فما قولكم؟

الجواب على السؤالين معاً فـي بابٍ واحد يحتاج إلى كتب وليس يكفيه باب ولكن منعا للتطويل المُمل أو الاختصار المُخلِّ نقول قال تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} مذهب أهل الحق أنَّ الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلَّدوا المؤمنين من المُذنبين الذين دخلوا النار فـي العذاب والأخبار متظاهرة بأنَّ من كان من العصاة المذنبين الموحِّدين من أمم النبيين هم الذين تنالُهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسَّك القاضي عليهم فـي الرد بشيئين أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت فـي المعنى والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يَبدُ من أحد منهم فـي عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإجماعهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة، فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} غافر 18 قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون وقال {من يعمل سوءا يجز به} النساء 123 {ولا يقبل منها شفاعة} البقرة 48 ليست هذه الآيات عامة فـي كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة فـي ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال فـي صفة الكافرين {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} المدثر 48 وقال {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} الأنبياء 28 وقال {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} سبأ 23 فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين. وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة} النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء 48 وقوله {انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}  يوسف 87 فإن قالوا: فقد قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال {لمن ارتضى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} مريم 87 وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال {أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا} وقال المفسرون إلا من قال لا إله إلا الله، فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم، وقال {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} غافر 7 وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر، قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار، وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله {فاغفر للذين تابوا} أي من الشرك {واتبعوا سبيلك} أي سبيل المؤمنين، سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء 48 فإن قالوا جميع الأمة يرغبون فـي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم، قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله فـي أن تناله لاعتقاده انه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم {لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل: ولا أنت يا رسول الله فقال: ولا أنا إلا أن يتغمدَّني الله برحمته}.

قوله تعالى {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} الأنعام الآية 51 وأنذر به أي بالقرآن والإنذار الإعلام وقيل به أي بالله، وقيل باليوم الآخر، وخص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لأنَّ الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون فـي الحشر؛ فالمعنى يخافون يتوقعون عذاب الحشر، وقيل يخافون يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق. وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر، وقيل الآية فـي المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة، والأول أظهر {ليس لهم من دونه} أي من غير الله (شفيع) هذا رد على اليهود والنصارى فـي زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} المائدة 18 والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار، ومن قال الآية فـي المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن؛ وفـي التنزيل {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} الأنبياء 28 {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} سبأ 23 {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} البقرة 255 {لعلهم يتقون} أي فـي المستقبل وهو الثبات على الإيمان وفيما يلي سرد لبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تدل على إثبات الشفاعة للناس يوم القيامة ففي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفـي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتي فأقول أنا لها...) وذكر الحديث. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه فـي قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} سئل عنها قال: (هي الشفاعة) قال: هذا حديث حسن صحيح وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذِن فـي الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون فـي حميل السيل) فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم وأيضا فـي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلِّ أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيُّما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة) ونختم القول بأن الاستدلال بالآيات التي نزلت فـي المشركين على المسلمين قياس مع الفارق فهو باطل شرعا وهو دأب اهل الزيغ والضلال من النجديين وأشباههم.

محمد صفوت جعفر

 

الحـث عـلـى كـثـرة الـذكــر

الله سبحانه وتعالى قد حثنا بشكل متكرر فـي القرآن الكريم على الذكر والإكثار منه مرغِّباً فـي الذكر مادحاً أهله ومرهباً من تركه وذامّاَ للغافلين، ويتكرر هذان الشكلان كثيراً وكأنها أهم وصايا الله لعباده تتكرر بين الحين والحين مختلفة بين الترغيب والترهيب وذلك لأن صلاح حال الأمة بصلاح أبنائها وصلاحهم بصلاح قلوبهم.

وسنتعرض فـي هذا الفصل لبعض هذه الآيات ومن ثَمَّ نرى ما هي آراء أهل التفسير فيها راجين الله أن يظهر ذلك المعنى ليكون محثاً لنا على الإكثار من ذكر الله تعالى، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فـي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فـي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق}البقرة 200.

قال بن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها، وقوله {كذكركم آباءكم} اختلفوا فـي معناه فقال عطاء: هو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر اللّه بعد قضاء النسك. وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون فـي الموسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل اللّه على محمد صلى الله عليه وسلم: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}، والمقصود منه الحث على كثرة الذكر للّه عزّ وجلّ.

قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فـي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين} الأعراف 205.

قال بن كثير فـي تفسير الآية: وفـي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء فـي بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وقد يكون المراد من هذه الآية كما فـي قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}، فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من جاء به، فأمره اللّه تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، ليتخذ بين الجهر والإسرار، والمراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدي بهم فـي كثرة طاعتهم وعبادتهم،قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} آل عمران 401.

قال الإمام القرطبي عند تفسيره للآية: قوله تعالى: {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} أمره بألا يترك الذكر فـي نفسه مع اعتقال لسانه؛ على القول الأول. وقد مضى فـي البقرة معنى الذكر، وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد فـي ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا} ولرخص للرجل يكون فـي الحرب بقول الله عز وجل: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} الأنفال54 وذكره الطبري (وسبح) أي صل؛ سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و(العشي) جمع عشية، وقيل: هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب؛ عن مجاهد. وفـي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي (والإبكار) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعـُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمـُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} 103 {وَلاَ تَهِنُواْ فـي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُـواْ تَأْلَمــُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمـُونَ كَمَا تَأْلَمـونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}401 النساء قال الإمام القرطبي عند تفسيره: قوله تعالى:(قضيتم) معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته...

وللحديث بقية.

أحمد عبد المالك