الخطبة
وآدابها -2
لقد كان فيما أوضحناه سابقاً من
أحكام وآداب للشريعة الإسلامية تضمنتها قواعدها واحتوتها نصوصها ما ينظم الحياة
العامة والخاصة وما يشير بجلاء إلى سماحة الشريعة الغراء في آدابها وسموها في
تقنينها، وقد بينا بعض آداب الخطبة باعتبارها مقدمة للزواج وتكوين الأسرة على أساس
من الدين وأحكامه.
�واليوم
نعرض لما
وضعته
الشريعة من أحكام
بشأن الخطبة
على خطبة
الغير وما
أشارت إليه من
آداب في ذلك
تراها واضحة
في الهدي
النبوي
الكريم وما
قرره فقهاء المسلمين
استنباطاً من
نصوص الشريعة
وأخذاً من
مواردها، عن
عقبة بن عامر
أن رسول الله
صلى الله عليه
وسلم قال (المؤمن
أخو المؤمن
فلا يحل لمؤمن
أن يبتاع على
بيع أخيه ولا
يخطب على خطبة
أخيه حتى يذر) رواه
مسلم. فأنت
ترى أن أحكام
الشريعة
الغراء قد نهت
المؤمن أن يبتاع
على بيع أخيه
وخاطبت في ذلك
المنع رابطة الاخوة
مع رابطة
العقيدة إذ
يقول المصطفى
صلوات الله
وسلامه عليه (المؤمن
أخو المؤمن
فلا يحل لمؤمن
أن يبتاع على
بيع أخيه )،
وإذا كان ذلك
في البيع وهي
سلعة عادية قد
خاطبت فيها
الشريعة صلة
الأخوة
ورابطة
الإيمان
ووضعت هذا
التصرف في
دائرة الحرمة
والحل. وهي
بذلك تدعو إلى
تقوية
الروابط
الإنسانية بين
المؤمنين
وتعمل على حسن
الصلات بين
الأفراد حتى
يعيش الجميع
في منعة وقوة
وتعاون وتكامل،
ذلك لأن
التنافس على
السلعة في
البيع والشراء
وبيع الشخص
على بيع أخيه
من العوامل التي
تخلق في
النفوس نوعاً
من الحقد
والكراهية،
وهي فضلاً عن
ذلك تلهب
الأسعار
وترفعها على
الناس وتؤذيهم
في أقواتهم
وحاجياتهم،
وإذا كان ذلك
كذلك في مسألة
عادية هي
البيع وتبادل
السلع وكانت
موضع نظر
واهتمام في
أحكام
الشريعة
وآدابها، فما
بالك بمسألة
ذات حساسية
خطيرة إذ هي اللبنة
الأولى في
بناء صرح
الحياة
الزوجية وهي
مسألة
الخطبة،
واعتداء
الخاطب
بالخطبة على
زميله الذي
سبقه، لم تترك
الشريعة
الغراء هذه
المسألة دون
أن تحدد
موقفها منها
فبينت إطار
النهي وحدود
الإباحة،
فقيد الحديث
الإباحة في
ذلك بترك
الخاطب
السابق أو
إذنه، هذا والأمر
في ذلك
بالنسبة
للمخطوبة لا
يعدو أن تكون
الفتاة التي
تقدم الخاطب
الأول إليها
قد أجابت هي
وأهلها
بالرفض أو
الإيجاب أو لم
تجب بشيء،
فتلك حالات
ثلاث تأخذ كل
حالة حكمها
المقرر في
الشريعة وعلى
نحو ما سنورده
فيما يلي:
فهي في الحالة الأولى: حين ترفض خطبة من يتقدم إليها لا
تدخل في دائرة الحظر ويباح خطبتها لمن يرغب، إذ الخاطب في هذه الحالة ليس معتدياً
على غيره، وكذلك الحال أن لو عدل الخاطب الأول أو أذن لغيره بالخطبة.
أما الحالة الثانية: وهي حالة الإيجاب حين تصرح
المخطوبة بقبولها للخطبة فلا يجوز التقدم لها، والحالة هذه لغير الخاطب أن يخطبها
ما دام عالماً بهذه الخطبة وقيامها، إلا إذا عدل الطرفان أو أحدهما فإن للآخر أن
يتقدم، حينئذ ولا يدخل في نطاق النهي الوارد بالحديث، أن يقول المصطفى عليه الصلاة
والسلام (ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)، ولقد كان التشريع الإسلامي في ذلك بما
لاحظه من حكم سامية بالغاً في نظرته غاية السمو ونهاية الكمال، فإن من يتقدم لخطبة
فتاة هي مخطوبة لآخر قبله قد ارتضته وهو يعلم ذلك، إنما يعرض كثيراً من الصلات
الأسرية للتفكك والانحلال، ذلك أن الخاطب قبله قد اكتسب حقاً وقد دعت الشريعة إلى
احترام حقوق الآخرين وصيانتها ونهت عن العدوان في شتى مظاهره، هذا فضلاً عن أن سلوك
الخاطب على خطبة أخيه يتنافى مع آداب المروءة والمجاملة ويوغر صدر الخاطب الأول
وأسرته، وربما نجم عن ذلك الكثير من المشاكل والمآسي التي قد تتعدى الخاطب ومخطوبته
إلى غيرهما من الأهل والأقارب، كما قد ينهدم بسبب ذلك بعض الزيجات من أقارب الطرفين
والتي كانت في غاية السعادة لولا اعتداء هذا المعتدي ومخالفته لما وضعته الشريعة من
دستور في ذلك.
عن ابن عمر
أن رسول الله
صلى الله عليه
وسلم قال (لا
يخطب الرجل
على خطبة أخيه
حتى يترك
الخاطب قبله
أو يأذن له الخاطب).
ولذا كان النهي عن الخطبة على خطبة الغير موضع بحث الفقهاء أخذاً مما أوردته السنة
وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني صاحب نيل الأوطار أن الجمهور قد ذهبوا إلى أن النهي
الوارد في أحاديث الموضوع إنما هي للتحريم كما حكى ذلك الحافظ في فتح الباري، وقال
الخطابي إن النهي هنا للتأديب وليس ينهى تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء، قال
الحافظ ولا ملازمة بين كونه للتحريم وبين البطلان عن الجمهور بل هو عندهم للتحريم
ولا يبطل العقد، وحكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالإجماع ولكنهم اختلفوا في
شروطه فقالت الشافعية والحنابلة: محل التحريم إذا صرحت المخطوبة بالإجابة أو وليها
الذي أذنت له، فلو وقع التصريح بالرد فلا تحريم.
أما الحالة الثالثة وهي حالة السكوت وعدم وجود إجابة
صريحة من المخطوبة بقبول الخطبة الأولى أو ردها، فقد اختلفت آراء الفقهاء بشأن جواز
خطبة الغير على هذه الخطبة شرعاً من عدمه، فقال بعض الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي
في أحد قوليه أنه يجوز للغير أن يخطبها في هذه الحالة لأن سكوتها يعتبر رفضاً
ضمنياً للخطبة الأولى فلم يثبت للخاطب الأول أي حق حتى تعد خطبة الثاني اعتداء على
حقه، وقال الإمام أبو حنيفة والإمام مالك أنه لا يجوز للغير أن يخطبها في هذه
الحالة إذ قد يكون السكوت انتظاراً لما تجريه هي وأسرتها من تحريات عن الخاطب كما
هي العادة فلا يدل سكوتها على الرضا من عدمه واحتمال القبول قائم وفي إباحة الخطبة
للغير في هذه الحالة اعتداء على حق الغير المحتمل وهو أمر لا تقره الشريعة وفي هذه
الفترة أيضا، وقد ينجم عن خطبة الغير في هذه الحالة إساءات قد تكون أكثر مما ينجم
عنها في ظروف أخرى لأنها جاءت في مرحلة خطيرة ذات حساسية وهي مرحلة التحريات
والبحث.
هذا وقد يخطب الشخص على خطبة أخيه دون علم منه بخطبة من
سبقه وذلك لا يقع تحت النهي السابق ذكره، وعلى هذا الأساس يمكن حمل حديث فاطمة بنت
قيس فقد روي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها أبو عمرو بن
حفص بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه فأخبرته أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم
خطباها وفي رواية أن أسامة بن زيد قد خطبها كذلك، وطلبت رأي الرسول صلى الله عليه
وسلم، فقال لها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه (أما معاوية فرجل ترب لا مال له،
وأما أبوجهم فضراب للنساء وفي رواية لا يضع عصاه عن عاتقه، أنكحي أسامة بن زيد)،
وحديث فاطمة بنت قيس كما قلنا لا يعارض أحاديث الباب الواردة في النهي عن خطبة
الشخص على خطبة أخيه لأن السياق فيه وفي الأحاديث الأخرى يدل على عدم علم كل خاطب
منهم بخطبة أخيه أو رفضها لخطبة من عدا الأخير منهم وإلا لبين الرسول صلى الله عليه
وسلم حكم خطبة كل منهم على خطبة أخيه.
هذا وفي حديث فاطمة بنت قيس ما يدل على أن المشورة
واستجلاء الرأي في أمر الخطبة من الأمور المطلوبة لخطورة الأمر وأهميته، كما أن
النصح في ذلك لمن طلبه من الأمور التي دعت إليها أحكام الشريعة وآدابها، وإلى لقاء
في حديث آخر إن شاء الله نوضح فيه أحكام الشريعة بالنسبة للآثار المالية المترتبة
على فسخ الخطبة.
لجنة
الفقه
|