هل من
سائل فيجاب؟
من وادي حلفا
أرسل إلينا
الأخ عمر حسن
بتوله
مستفسرا عن
الفرق بين
الكبر
والتجمل؟
قال رسول
الله صلى الله
عليه وسلم: (لا
يدخل الجنة من
كان في قلبه
مثقال ذرة من
الكبر، قال
رجل: يا رسول
الله، إن
الرجل يحب أن
يكون ثوبه
حسناً ونعله
حسنا. قال: إن
الله جميلٌ
يحب الجمال،
الكبر بطر
الحق وغمط
الناس) المثقال
في الأصل
مقدار من
الوزن أي شيء
كان، من قليل
أو كثير،
فمعنى مثقال
ذرة: وزن ذرة،
والناس
يطلقون كلمة (المثقال)
في العرف على
الدينار
خاصة، وليس
كذلك. و(الذرة) واحدة
الذر، والذر
هو النمل
الأحمر
الصغير، وقيل
أن مائة نملة
وزن حبة، والذرة
واحدة منها،
وقيل أن الذرة
ليس لها وزن،
ويراد بها ما
يره في شعاع
الشمس الداخل
في النافذة. وفي
رواية أخرى
للحديث جاءت
العبارة هكذا:
(مثقال حبة من
خردل من كبر). وقد
ذكر ابن فارس
أنه يقال: خردات
اللحم، أي
قطعته
وفرقته، وقال:
(والذي عندي
في هذا أنه
مشبه بالحب
الذي يسمى
الخردل، وهو
اسم وقع فيه
الاتفاق بين
العرب
والعجم، وهو
موضوع من غير
اشتقاق) والمراد
بالكبر هنا
كما قال بعض
العلماء، هو كبر
الكفر
والشرك،
كقوله تعالى: {إن
الذين
يستكبرون عن
عبادتي
سيدخلون جهنم
داخرين} سورة
غافر آية
60
وقيل أن
المعنى أنه لا
يدخل الجنة
دخول تأبيد،
وقيل أنه أراد
أنه إذا دخل
الجنة نزع ما
في قلبه من
الكبر كقوله
تعالى: {ونزعنا
ما في صدورهم
من غل} سورة
الحجر آية
47. والتكبر هو أن
يستعظم المتكبر نفسه، ويستحقر الناس، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى
الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم، ويأنف مساواتهم، فكل من رأى أنه خير من أخيه،
واحتقر أخاه وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق وهو يعرفه، فقد تكبر
فيما بينه وبين الخلق، ومن أنف أن يخضع لله تعالى، ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله،
فقد تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.
وقد ذمّ
القرآن
الكريم الكبر
وحمل عليه
وعلى أهله، فقال:
{سأصرف عن
آياتي الذين
يتكبرون في
الأرض بغير الحق،
وان يروا كل
آية لا يؤمنوا
بها، وان يروا
سبيل الرشد لا
يتخذوه
سبيلا، وان
يرو سبيل الغي
يتخذوه
سبيلا، ذلك
بأنهم كذبوا
بآياتنا وكانوا
عنها غافلين} سورة
الأعراف�
146. وقال: {فاليوم
تجزون عذاب
الهون بما
كنتم
تستكبرون في
الأرض بغير
الحق وبما
كنتم تفسقون} سورة
الأحقاف
20 . وقال:
{كذلك يطبع
الله على كل
قلب متكبر
جبار} سورة
غافر35. وقال: {فلبئس
مثوى
المتكبرين} سورة
النحل�
92. وقال:
{أليس في جهنم
مثوى
للمتكبرين} سورة
الزمر
60 . وقال: {أنه
لا يحب
المستكبرين} سورة
النحل�
23 .
وجاء في
الحديث (قال
الله تعالى: الكبرياء
ردائي،
والعظمة
إزاري، فمن
نازعني فيهما
قصمته). وفي
رواية (فمن
نازعني
واحداً منهما
ألقيته في
جهنم ولا أبالي).
وقد شرحت هذا
الحديث ضمن
الأحاديث
القدسية التي
أشرحها في هذه
المجلة. ويقول
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم: (لا يزال
الرجل يذهب
بنفسه حتى
يكتب في
الجبارين
فيصيبه ما
أصابهم)، وقال
أيضاً: (تحاجت
الجنة
والنار،
فقالت النار: أوثرت
بالمتكبرين
والمتجبرين،
وقالت الجنة: ما
لي لا يدخلني
إلا ضعفاء
الناس
وسقاطهم وعجزتهم
؟ فقال الله
للجنة: إنما
أنت رحمتي
أرحم بك من
أشاء من
عبادي، وقال
للنار: إنما
أنت عذابي
أعذب بك من
أشاء، ولكل
واحدة منكما
ملؤها). والسقاط
هم الذين لا
جاه لهم، وكان
من دعوات الرسول
عليه الصلاة
والسلام: (أعوذ
بك من نقمة
الكبرياء)،
وقال أيضاً: (من
جر ثوب خيلاء لم
ينظر الله
إليه يوم
القيامة). وحينما
قال رسول الله
صلى الله عليه
وسلم: (لا يدخل
الجنة من كان
في قلبه مثقال
ذرة من كبر) سأله
أحد
السامعين،
وهو كما صرحت
باسمه بعض الروايات
ثابت بن قيس
بن شماس: (إن
الرجل يحب أن
يكون ثوبه
حسناً ونعله
حسناً) والنعل
هي التي تلبس
في الأرجل،
وهي مؤنثة
تأنيثاً غير
حقيقي، ولذلك
يجوز وصفها
بلفظ المذكر،
ومن أمثلة ذلك:
(يا خير من
يمشي بنعل فرد)،
والنعل الفرد
هي التي لم
تخصف ولم
تطارق، وإنما
هي طاق واحد،
والعرب تمدح
برقة النعال،
فقد خشي ثابت
أن يكون حسن
الثياب
والنعال داخلاً
ضمن الكبر الذي
حذر منه رسول
الله عليه
الصلاة
والسلام،
وثابت بن قيس
هو الصحابي
الجليل الذي
كان يقال له
خطيب
الأنصار،
وخطيب رسول
الله صلى الله
عليه وسلم،
وقد شهد غزوة
أحد وما
بعدها، وثبت
في الصحيح أن
الرسول بشر
ثابتاً
بالجنة وأخبره
أنه من أهلها،
كما ثبت أن
الرسول قال: (نعم
الرجل ثابت بن
قيس)، وقد نال
نعمة الشهادة
في سبيل الله
عزّ وجل سنة
إحدى عشرة
للهجرة،
ويروى أنه
حينما استشهد
كان عليه درع
نفيسة،
فأخذها رجل،
فجاء ثابت في
المنام لأحد
المسلمين
وقال له: إني
أريد أن أوصيك
وصية فإياك أن
تقول هذا حلم
فتضيعه، إني
قتلت أمس، فمر
بي رجل فأخذ
درعي ومنزله
في أقصى
الناس، وعند
خبائه فرس
يستن في طوله (أي
يتحرك مرحا
ولا راكب عليه)،
وقد كفأ على
الدرع برمة،
وفوق البرمة
رحل، فأت
خالداً (يعني
أبا الوليد) فمره
فليبعث
فليأخذها،
فإذا قدمت
المدينة فقل
لأبي بكر
الصديق رضي
الله عنه إن
عليّ من الدين
كذا وكذا،
وفلان من
رقيقي حر
وفلان). وفعل
الرجل ما
أوصاه به
ثابت، ووجدوا
الدرع حيث
وصف، وأجاز
أبو بكر
وصيته، ولذلك
قالوا: لا
نعلم أحداً
أوصى بعد موته
فأجيزت وصيته
غير ثابت بن
قيس رضي الله
عنه، وأراد
الرسول صلى
الله عليه
وسلم أن يخبر
ثابتاً بأن
نظافة الثوب
وجماله،
ونظافة النعل
وحسنها، ليس
مما يدخل في
معنى الكبر،
فقال: (إن الله
جميلٌ يحب
الجمال)،
والجمال يقع
على الصور
والمعاني،
وقوله إن الله
جميل يحب
الجمال أي حسن
الأفعال
والأوصاف،
وهو يحب أن
تكون مظاهر
المسلمين
جميلة مع جمال
بواطنهم
وطهارتها،
ولقد كان رسول
الله عليه
الصلاة
والسلام يحب
النظافة حباً
شديدا، يحب
نظافة الجسم،
ونظافة
الثوب، ونظافة
المكان، وكان
يحب الطيب ولا
يرد هديته،
وكان لمعان
الطيب يبدو في
رأسه ولحيته،
وكان ينفر من
الرائحة
الكريهة،
وقالت السيدة
عائشة رضي
الله عنها: (طيبت
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم لإحرامه
بذريرة) وهو
نوع من الطيب
مجموع من
أخلاط، وكانت
للنبي (سكة) يتطيب
منها، والسكة
طيب أسمر يخلط
بالمسك ويعرك،
وكلما طال
عليه زاد
عبقه، وقالت
السيدة عائشة
أيضاً: (كنت
أطيب رسول
الله صلى الله
عليه وسلم
بأطيب ما يجد)،
وقال أنس بن
مالك: (ما شممت
ريحاً قط أو
عرقاً أطيب من
ريح النبي أو
عرقه). وكان
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم يرتدي
أحسن ثيابه
إذا قدمت عليه
الوفود. وهو
القائل في
حديث آخر: (إن
الله جميلٌ
يحب الجمال،
سخي يحب
السخاء، نظيفٌ
يحب النظافة)،
ثم أوضح
الرسول الفرق
بين التجمل
المشروع والتكبر
المذموم فقال:
(الكبر بطر
الحق وغمط
الناس)،
والبطر
بفتحتين هو
الطغيان عند
النعمة والغنى،
ومنه الحديث: (لا
ينظر الله يوم
القيامة إلى
من جر إزاره
بطراً). وبطر
الحق هو أن
يجعل الإنسان
ما جعل الله
حقاً من
توحيده
وعبادته
باطلا، وقيل
هو أن يتجبر عن
الحق فلا يراه
حقا، وقيل هو
أن يتكبر عن
الحق فلا
يقبله، ومن بطر
الحق أيضاً
إنكاره ورده
على قائله
ترفعاً وتكبرا.
وغمط الناس
أيضاً
احتقارهم
وتعييبهم،
وفي رواية أن
الرسول صلى
الله عليه
وسلم سئل عن
الجمال في
الثوب: هل هو
من الكبر ؟
فقال: لا،
ولكن من سفه
الحق وغمص
الناس،
وتقدير الكلام:
ولكن الكبر
كبر من سفه
الحق وغمص
الناس. وروى
أيضاً أن ثابت
بن قيس بن
شماس قال: يا
رسول الله،
إني امرؤ قد
حبب إليّ من
الجمال ما
ترى، أفمن
الكبر هو ؟
فقال النبي: لا،
ولكن الكبر من
بطر الحق وغمص
الناس. وغمص
فلان الناس
بفتح الغين
وكسر الميم
ازدراهم واستحقرهم
وهم عباد الله
أمثاله، وقد
يكونون خيراً
منه. تقول: غمص
فلان الناس
يغمصهم غمصا. وغمصه
حقه: أنقصه. ويقال: رأيت من فلان
أمراً أغمصه عليه، أي أعيبه به، وأطعن عليه، ويقال للمنافق: فلان مغموص عليه
النفاق، أي مطعون في دينه متهم بالنفاق.
وفي بعض الروايات جاءت كلمة (من سفه الحق) بدل (من بطر
الحق) كما جاءت رواية أخرى تقول: (الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس) وسفه الحق هو
إباؤه ورده وعدم الخضوع له، والغمط الاستهانة والاحتقار وهو مثل الغمص أو قريب منه،
ولما أمر الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه بتقصير الثوب وأن مازاد عن الكعبين
في النار فخاف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خوفا شديدا ولكن الحبيب طمأنه بقوله (لست
منهم ياأبو بكر) لأن المقصود بالحديث من يطيل ثوبه كبرا وخيلاء حتى أن بعض الأغنياء
كان يسير متبخترا والغلمان من خلفه يرفعون ذيل الثوب عن الأرض، وهكذا نفهم أن الكبر
ليس في نظافة الثوب ولا في جمال الهيئة، وإنما الكبر رذيلة تدعو صاحبها إلى احتقار
الناس والتعالي عليهم، وإلى إنكـار الحـق وجحد العدل، نسأل
اللـه جلّ جلاله أن يعلمنا التواضع، وأن يباعد بيننا وبين الكبر إنه ولي
الهداية والتوفيق.
محمد صفوت جعفر
|