نـصـيـحـة

الـقاطعـات -4

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

امتحان الإمام البخاري

 

نـصـيـحـة

فقال: يا بني.. أوصيك بتقوى الله في الغيب والشهادة والرضى عن الله عزّ وجل في الشدة والرخاء. يا بني، ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية. اعلم يا بني أنه من عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل سيف البغي قُتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه انكشفت عورات بنيه، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابر من الأمور عطب، ومن اقتحم البحر غرق، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه عليهم شتم، ومن سلك مسالك الشر اتهم، ومن خالط الأشرار حقر، ومن جالس الفقهاء وقر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.

يا بني، من نظر في عيوب الناس ورضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه، ومن تفطن اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس. يا بني، عز المؤمن غناؤه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه، والعجب ممن خاف العقاب فلم يكف، ورجا الثواب فلم يعمل، والذكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين.

يا بني، ليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غناء. يا بني، العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله تعالى، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء، ومن تزين بمعاصي الله في المجلس أورثه الله ذلا، ومن طلب العلم علم. يا بني، رأس العلم الرفق، وآفته الخرق، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب، العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.

يا بني، كثرة الزيارة تورث الملالة، الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم، إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله. يا بني، كم من نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة، لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أعز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى، ومن اقتصر على لقمة الكفاف فقد تعجل الراحة وتبوأ أحسن الدعة، والحسد مفتاح التعب ومطية النصب وداعٍ إلى التقحُّم في الذنوب، والشره داعٍ إلى مساوئ العيوب، وكفاك أدباً لنفسك ما كهرته لغيرك، لأخيك المؤمن عليك مثل الذي لك عليه، ومن تعرض للأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض لفادحات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، الصبر جنة من الفاقة، البخل جلباب المسكنة، الحرص علامة الفقر، وصول معدم خير من جاف متكبر، ولكل شيء قوت وابن آدم قوت الموت.

يا بني، لا تؤيس مذنبا، فكم عاكف على ذنبه ختم له بالخير، وكم من مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره، ومن تحرى القصد خفت عليه الأمور، في خلاف النفس رشدها، الساعات تنقص الأعمار، ربك للباغين من أحكم الحاكمين، وعالم بضمائر المضمرين، بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، في كل جرعة شرق، ومع كل لقمة غصص، لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى، ما أقرب الراحة من التعب، طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله، وحبه وبغضه، وكلامه وصمته، وبخ بخ لعالم علم فكف، وعمل فجد، وخاف البينات فأعد واستعد، إن سئل أفصح، وإن ترك صمت، كلامه صواب وسكوته غير عي عن الجواب، والويل كل الويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان، واستحسن لنفسه ما يكرهه الناس له، ويزري على الناس بمثل ما يأتي، من لانت كلمته وجبت محبته، من لم يكن له سخاء ولا حياء فالموت أولى به من الحياة، لا تتم مروءة الرجل حتى لا يبالي أي ثوب لبس ولا أي طعام أكل.

 

الـقاطعات -4

واعلم مما سبق الفرق بين الصدق والادعاء أن نهاية هذا المقام عالم المثال وهوعالم غيرهذا العالم الذي انت فيه ولايعرفه الا من كان فـي مقام القلب وهو نهاية المقام الثانى من المقامات السبعة وهواول مقام المقربين وفيه يرى السالك بعض الامور التي لاتدرك بالحواس لان القلب عرش الله وبيت الله بمعنى انه محل لوضع الاسرارفكن ايها الاخ الكريم تابعا للشريعة متخلقا بالطريقة وحاول ان تقلل من نومك وكن كثير الصمت فقد روى الامام احمد فـي مسنده ان النبي (كان طويل الصمت قليل الضحك) ومقام القلب هو مقام الابرار فبهذا تفارقهم مسافر الى حضرة الجبار وأول منازلك فـي سفرك هذا عالم المثال ودخول هذا العالم لايكون الا للسالكين فقط وهو عبارة عن حالة متوسطة بين النوم واليقظة وإذا كان غيرذلك فهومقام لايعتد به ولايعتنى به ولما كان حال السالك قبل هذه الحالة يغلب عليه النوم أكثر من اليقظة وفى هذه الحالة تغلب عليه حالة اليقظة اكثرمن النوم فيرى حينئذ بعض الروحانيين فيظن انه رآهم يقظة ولكن واقع الحال ان همته عندما كانت عالية كانت هذه الحالة اقرب الى اليقظة من النوم فظن انه مستيقظ، فتجد احد المريدين يقول لك انه رأى الشيخ يقظة وله الحق فـي هذا القول لانه لابد من ذهول السالك حتى يكشف له عن حقيقة هذا الامروحدث ان احد المريدين ذكرانه رأى النبي يقظة وهويجلس مع اخوانه فقال له سيدي فخرالدين هل الذي كان يجلس بجوارك رأى النبي ايضا؟ قال: لم يراه. فقال له الشيخ: اذن لم تراه بعين رأسك ولكن رأيته بعين البصيرة فانك لو رأيته بعين رأسك لرآه من كان يجلس بجوارك فاعلم ياخى ان هذه حالة متوسطة بين عالم الملك وعالم الملكوت لان اليقظة الصرفة لاترى فيها الا عالم الملك واما ماهو فـي عالم الملكوت فلا يرى الا بعين البصيرة وعالم المثال شعبة من عالم الملكوت، وقد يلبس الشيطان على السالك هذا الامرفيظن انه رأى الحق والحال انه رأى شيطانه. ولكن متى يكون التمييز؟ أولا. إذا اعقبت الرؤيا علوما ومعارف واتباعا للشريعة وتخلقا بالطريقة فهي اكرام ومنة من الله وان كانت غيرذلك فهي شيطنة وزندقة واتباع هوى والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت ربي تبارك وتعالى فـي احسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد؟ قلت: أنت أعلم ربى. فوضع كفه بين كتفى فوجدت بردها بين ثديى فعلمت مافى السموات ومافى الارض ثم تلا قول الحق تبارك وتعالى {وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين}. ثم قال: فيم يختصم الملأ الاعلى يامحمد؟ قلت: فـي الكفارات. قال:وماهي؟ قلت: المشى على الاقدام الى الجماعات والجلوس فـي المساجد خلف الصلوات وابلاغ الوضوء اماكنه من يفعل ذلك يعيش بخيرويموت بخيرويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وبذل السلام وأن يقوم بالليل والناس نيام). ثم دعى النيى (اللهم انى أسألك الطيبات وترك المنكرات وفعل الخيرات وحب المساكين وأن تغفرلى وترحمنى وتتوب عليَّ وإذا أردت فتنة فـي قومى فتوفنى غير مفتون). هذا هو المطلوب وغير ذلك أمور شيطانية لان المطلوب من الطريقة العلوم الالهية والمعارف الربانية التي هي نتائج تزكية النفس وتصفية القلب، واعلم يااخى أن تصفية القلب علامته حصول الالهامات والمعارف الربانية الموافقة لكتاب الله وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم وعلامة تزكية النفس خلاصها من الغضب والكبر والحسد وحب الشهرة، فـي هذه الحالة تكون نفسك قد تزكت.وقالوا ان القلب له أبواب وهي الحواس الخارجة وبداخله شمعة فإذا سدت الأبواب ظلت الشمعة مشتعلة وأضاءت البيت بنورها وان فتحت الابوات انطفأت وأظلم البيت وهذا النور المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم (إذا نزل النور فـي القلب انفسح وانشرح. قيل: يارسول الله هل لذلك من علامات؟ قال: نعم التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وتحقيق هذا ان القلب له جهة الى عالم الشهادة (الدنيا) وله جهة إلى عالم الغيب (عالم الملكوت) فإذا توجه القلب الى عالم الشهادة اعرض عن عالم الملكوت وإذا اعرض عن عالم الشهادة توجه الى عالم الملكوت ولايمكنه التوجه الى العالمين معا خاصة فـي حالة بدايته ولذلك لابد من اتباع الشيخ فانه صاحب هذا الميزان فلا يغيبك عن عالم الشهادة ولايحرمك من عالم الملكوت ويعطيك حقك من هذا ومن هذا كما قيل فـي ذلك:

ومن لم يكن خلف الخبير مسيره       كثرت عليه طرائق الاوهام

فبدون الشيخ المربى يتخبط الانسان فـي ظلمات الجهل لايستطيع الخروج منها بل يسير حيوانا أسير الشهوات أسير الغضب كثير النوم كثير المخاصمة والمجادلة كثير الخلط، فإذا أردت أن تقوى روحك فلا تغفل عن المراقبة الدائمة حتى يمكنك التصرف فـي غضبك وشهوتك فيكونا مملوكين لك ليس لهما سلطان عليك.

وللحديث بقية

 

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

الحمد لله القابض الباسط والأول الآخر المحيي المميت تبارك في تضاد أسمائه، تحير العارفون به في جليل جميل صفاته ولم يدركوا كنه ذاته من تجليات أفعاله وأسمائه وصفاته والصلاة والسلام على من خلقه من نور جمال وجهه وجلله بنار الشوق إليه والوقوف بين يديه أحمد المحمود ذاتا وصفاتا وعلى آل بيت كريم السوح عترته الغر الميامين، وإن أحلى مافي لسان العرب تضاد المباني لتبيان المعاني وإبطان المراد لتحصيل الرشاد، وقد كان للعرب في أمثالها وحكمها دروبا فقالوا(فلان جبان الكلب) وأرادوا بها أن فلان هذا كريم لأن كلبه إعتاد على الضيوف ليل نهار يغشون الدار في كل وقت فعدم النباح وملاحقة الأشخاص، وقال امرؤ القيس يصف حصانه

مكر مفرمقبل مدبر معا، فالكر والفر والإقبال والإدبار متضادات أظهرت قدرة الفرس على القيام بما استحال فحسن الوصف وجل الواصف.وكذلك شكوى الحبيب من حبيبه الذي جارعليه فقال

أصم لا يسمع الشكوى وأبكم لم يحر        جوابا وعن حال المشوق عـمـي

فمن شدة وصفه لحبيبه صار مدحه ذما وكحال العصفور في قبة النبي سليمان لما أراد أن يظهر حبه لعصفورته قال لها أطلبي أي شئ تريدين حتى لو طلبت أن أهدم هذه القبة على رأس سليمان لفعلت،فلما عاتبه سيدنا سليمان قال سماح يانبي الله هذا لسان حال المحب

ولكن إذاطرقنا هذا الباب في ديوان شراب الوصل نجد شيئا جديدا على استخدام التضاد إذ يقول سيدي فخر الدين رضي الله عنه

العين بالعين القصاص شريعة       أوليس منها يستقي الأحبـاب

أراد سيدي فخر الدين أن يصف شراب أحبابه وهو شئ جميل رائق صافي عذب فكيف يبدأ البيت بالكلام عن القصاص والحدود والشريعة التي وصفها سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه بأنها قمقم يحبس المريد فيه نفسه، كيف يجتمع الشراب الذي يكون حال تناوله التلذذ مع سجن وشريعه وقصاص وهنا يكون مراد الشيخ في تحير المحب ليغوص ولها في بطن المعاني المتضادة للأسماء الإلهية، فالعين بالعين لايقصد بها قصاص الحدود بل عيون الأسماء المتضادة فيقتص من المميت بالمحيي ومن الذل بالمعز ومن القابض بالباسط فيجتمع الجلال بالجمال فيشرب الأحباب من عين الكمال وكما ترنم سيدي فخر الدين رضي الله عنه بقوله:

أيانار نوري في قلوب أحبتـي       تري أين من يزكيك أين زكاتك

فبنار الشوق إليه نسعى وبنورالوجد فيه نهتدي لنشرب من بحار كمال أسماء صفاته وقد جل وعلا بذاته،وها أنت يا سيدي فخر الدين لايشق لك غبار فكيف اللحاق بك.

د. الوسيلة درار

 

امتحان الإمام البخاري

سمع أهل العراق بالإمام البخاري فدعوه عندهم فلما أزمع الذهاب وتلبية الدعوى أراد أهل العلم فيها أن يعرفوا قدر علم الرجل. فوضعوا امتحانا يكاد يكون معجزا. إذ انتقوا من بينهم عشرة علماء، وأتوا بمائة حديث، فعزلوا كل متن حديث عن سنده. ونسبوا -على سبيل المثال- متن الحديث الأول، إلى سند الحديث العشرين وهكذا بالمائة حديث حتى أصبحت مغلوطة كلها. وحفظ كل عالم من العشرة عشرة أحاديث بالطريقة المغلوطة، ولما جاء البخاري واستقر به المجلس وقد أحاطت به آلاف الناس ابتدره العالم الأول وسأله عن علمه بالحديث كذا ساردا له السند والمتن بالطريقة المغلوطة فيقول البخاري لا أعرفه وهكذا إجابته في المائة حديث، حتى تأكد العلماء أنه ليس في العلم على الدرجة التي كانوا يظنون. فلما سكتوا قال لهم: أليس من أسئلة أخرى؟ قالوا نعم. لقد انتهت الأسئلة. قال لهم إذا اسمعوا. أما عن السائل الأول فقد سألني عن عشرة أحاديث لا تتفق مسانيدها مع متونها، والأحاديث كما سمعتها هي: وسرد العشرة أحاديث بالطريقة المغلوطة التي سمعها ثم تولى تصحيحها بإسناد كل متن إلى سنده الصحيح، وهكذا فعل بالمائة حديث، يسرد ما سمع كما سمع لا يقدم حديث عن حديث ولا يؤخر حديث عن حديث ولا يتمهل للتفكر ولم يفته شيء كأنما يقرأ الأمر من كتاب مفتوح، فإذا العلماء يقومون إليه بين مقبل ليده وبين لاثم لرأسه وبين متمسح بثوبه !