من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني -21

حول الفقه

 

من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني - 21

وكان يقول: إذا كان المقتدي بالشرائع والكتاب واقفاً بين الأمر والنهي، كان فتحه حقيقياً حتى يفك به كل مشكل، ويحل به كل طلسم ويعرف به كل مبهم، وأما إذا كان فتحه حفظ كلام، وترتيب وصف مقامات، فذلك ليس بفتح، إنما هو حجاب له عن إدارك الإدارك. وعن مشاهدة علوم الحق، وليس من وصف كمن عرف وحمل ونطق بلسان العرفان، وكم من حملته العناية حتى شاهد ومع ذلك فلو سئل عن وصف المقامات ما وصفها، ومقصودي لجميع أولادي أن يكونوا ذائقين لا واصفين، وأن يأخذوا العلوم من معادنها الربانية لا من الصدور والطروس، فإن القوم إنما تكلموا عما ذاقوا وقلوبهم كانت ملآنة بعطاء الله تعالى ومواهبه، ففاضت منها قطرات من ماء الحياة التي فيها فانفجرت علومهم عن عين عين عين عين عن حاصل ماء الحياة. وأما الوصَّاف فإنما هو حاك عن حاك غيره، وعند التخلق والفائدة لا يجد نقطة ولا ذرة من ذوق القوم، وينادي عليه هذا الذي قنع بالقشور في دار الغرور، ولقد أدركنا رجالاً وأحدهم يستحيي أن يذكر مقاماً لم يصل إليه، ولو نشر بالمناشير ما وصفه، فيا جميع أولادي إذا سألكم أحد عن التصوف مثلاً أو عن المعرفة والمحبة فلا تجيبوه قط بلسان قالكم، حتى يبرز لكم من صدق معاملتكم ما برز للقوم فيكونُ كلامكم عن حاصل وعن محصول، فإذا قام أحدكم بالأوامر الدينية، وصدق في العمل، ترجم لسانه بالفوائد التي أثمرت من صدقه، وكل من ادعى الصدق والإخلاص ولم يحصل عنده ثمرة الأدب والتواضع فهو كاذب، وعمله رياء وسمعة، لا يثمر له إلا الكبر والعُجْبَ والنفاق وسوءَ الأخلاقِ شاء أم أبى. وكان يقول: ليس التصوف لبس الصوف، إنما الصوف من بعض شعار التصوف فإن دقيق التصوف رقيق صفاته، ورونق بهجةِ ترقيه لا يحصل إلا بالتدريج فإذا وصل الصوفي إلى حقيقة التصوف المعنوي لا يرضى بلبس ما خشن لأنه وصل إلى مقامات اللطافة، وخرج عن مقامات الرعونة وعاد ظاهره الحسي في باطنه الآلي، واجتمع بعد فرقة وقذف فيه جذوة نار الاحتراق، فعاد الماء يحرقه والثلج والبرد يقوي ضرامه، والقميص الرقيق لا يستطيع حمله، للطافة سره وزوال كثافته، بخلاف المريد في بدايته، يلبس الخشن ويأكل الخشن ليؤدب نفسَهُ، وتخضع لـمولاها ويحصل لصاحبها تمهيد للمقـامات التي يترقى إليها، فكلما رق الحجاب ثقلت الثياب.

وكان رضي الله عنه يقول: يا ولد قلبي اجمع همة العزم لتعرف معنى الطريق بالادراك لا بالوصف، وكل مقام وقفت فيه حجبك عن مولاك، وكل ما دون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكتابه العزيز باطل. وذلك لأن الأغراض تورث الإعراض، وكان رضي الله عنه يقول: يا ولد قلبي تجرد من قالبك إلى قلبك، والزم الصمت عن الاشتغال بما لا فائدة لك فيه، من الجدال والنقل وزخرف القول، وصمم العزم واركب جواد الطريق، واحتم حمية قبل الشربة، تكون باطناً، ولا تشرب إلا شراباً يكون فيه محو وسكر آه آه ما أحلى هذا الطريق، ما أسناها، ما أمرها، ما أقتلها، ما أجلاها، ما أحياها، ما أصعبها، ما أكبدها، ما أكثر مصايدها، ما أصعب مواردها، ما أعجب واردها، ما أعمق بحرها، ما أكثر أسدها، ما أكثر مددها، ما أكثر عقاربها وحياتها، فبالله يا أولادي لا تتفرقوا واجتمعوا يحميكم الله تعالى من الآفات ببركة أستاذكم. وكان رضي الله عنه يقول: كيف تطلب ليلى وأنت ليلاً ونهاراً مع عذالها ولوامها والمنكرين علي أهل حضرتها، والمعترضين عليهم والخائنين لعهودهم، إنما تبرز ليلى لمن تهتك فيها، ولكم يقبل عذل عُذالها، ولم يسمع لكلام المنكرين على أهل حضرتها، وليلى لا تحب من يحب سواها، أو يخطر في سره محبة لسواها، إنما تحب من كان بشرابها ثملان ولهان ذهلان غرقان نشوان هيمان حتى لو اجتمع الثقلان على أن يلووا قلبه عنها، وأن يحلوا عقدة عهدها معه ما استطاعوا، فانظر حالك يا ولدي.

وكان يقول: يا أولاد قلبي لا تجالسوا أرباب المحال، وزخرف الأقوال ولقلقة اللسان، وجالسوا من هو مقبل على ربه، حتى أخذت منه الطريق، ودقَّهُ التمزيق، وتفرق عنه كل صديق، حتى عاد كالخلال، وذاب جسمه من تجرع شراب سموم الطريق، وصار نومه أفضل من عبادة غيره، لأنه في نومه في حضرة ربه، وربما كان العابد في عبادته مع نفسه.

وكان رضي الله عنه يقول: عليكم بتصديق القوم في كل ما يدعون فقد أفلح المصدقون وخاب المستهزئون فإن الله تعالى يقذف في سر خواص عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا بدل ولا صديق ولاولي. ما أنا قلت هذا من عندي إنما هو كلام أهل العلم بالله تعالى. فما للعاقل إلا التسليم وإلا فاتوه وفاتهم وحرم فوائدهم وخسر الدارين.

وكان رضي الله عنه يقول: علامة المريد الصادق أن يكون سائراً في الطريق ليلاً ونهاراً غدواً وإبكاراً لا مقيل له، ولا هدو، وجواده قد فرغ من اللحم وامتلأ من الشجاعة والهم، قد شف مطيته السرى وأسقهما البرى لا يقيد همته مقيد ولا يهوله مهلك ولا توجعه ضربات الصوارم، ولا يشغله شيطان غوي، ولا مارد جني كل من خاصمه في محبوبه عاد مخصوماً لا يهدأ ولا ينام ولا يصحو بل الدهر كله له سري، حتى يدخل خيام ليلى ويضعَ خدَّهُ على أطناب الخيام فإذا سمع الخطاب بالترحيب من الأحباب انتعش وطاب، وسمع الخطاب بالترحيب من قاب قوسين هناك استراح، يا طالما قطعت براري وقفاراً وجبالاً وبحاراً وظلاماً وناراً، يا طول ما تعبت وتعنيت، ويا طول ما رجع غيركُ من الطريق، وجئت فأكرم الله تعالى مثواك، ولا خيب مسعاك، أنت اليوم ضعيف عندنا، ويومنا لا انقضاء له أبد الآبدين ودهر الداهرين. وكان يقول: من شأن الفقير:أن لا يكون عنده حسد ولا غيبة ولا بغي ولا مخادعة ولا مكابرة ولا مماراة ولا ممالقة ولا مكاذبة ولا كبر ولا عجب ولا ترف ولا افتخار ولا شطح ولا حظوظ نفس ولا تصدّر في المجالس ولا رؤية نفس على أخيه ولا جدال ولا امتحان ولا تنقيص ولا سوء ظن بأحد من أهل الطريق ولاممن تزيق بالزيق ولا يقدح قط في صاحب خرقة إلا أن خالف صريح الكتاب والسنة اختياراً وكان يقول: من شرط الفقير أن لا يكون عنده التفات إلى مراعاة المخلوقين له في الحرمة والجاه والقيام والقعود والقبول والإعراض وغير ذلك من الأحوال الظاهرة لأنه لا يراعي إلا الله تعالى.

وكان رضي الله عنه يقول: ما دام أنا وأنت فلا حب، إنما الحب التمازج واختلاط الأرواح بالأجساد. وكان يقول: ليس أحد من القوم مبتدعاً إنما هم متبعون في الأدب لسيد الأمم. وقد قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} فلقد كان أحدهم بعد نزولها إذا وقف يقول نعم ثلاث مرات فإن أذن له وإلا رجع من حيث أتى. وكان يقول: كان السلف يخافون من آفات الاجتماع فلذلك آثروا العزلة إلا في صلاة الجمعة وحضور مجالس العلم التي لا رياء فيها ولا جدال، ولا عُجْب ولا مداراة، والسلامة من هذه الأمور في زماننا هذا قل أن توجد. فعليك بالوحدة بعد معرفة ما أوجب الله تعالى إليك فإنك يا ولدي في القرن السابع الذين أكثرهم يجعلون شريعة السالك قدحاً في الشريعة وحقيقة المحبة بدعاً في الطريق كأنهم ما علموا قط عطاء الله ومواهب مدد الله وخوارق عجائبه بل رأوا من سوء حالهم أن باب العطاء قد أغلق، فمن اعتقد ذلك فإنما هو معترض على الله تعالى في فعله ونعوذ بالله من التعرض فإنه لا بد لأهل حضرته تعالى من التمييز عن المعرضين، ليشتاق المعرضون إليها حين يرون الخوارق تقع على يد أوليائه فما أجهل من جهل قدر الفقراء وما أعماه إيش يقال في قوم كلهم طالبون الله تعالى. أينكر عليهم مسلم؟ كلا والله.

وقيل للجنيد رضي الله عنه أن قوماً يتواجدون ويتمايلون قال: دعهم مع الله تعالى يفرحون، ولا تنكر إلا على العصيان المصرح به في الشريعة، أما هؤلاء القوم فقد قطعت الطريق أكبادهم، ومزق التعب والنصب أمعاءهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم ولو ذقت يا أخي مذاقهم لعذرتهم في صياحهم وشق ثيابهم، فالله يلهم أولادي سلوب سبيل الرشاد، إنه سميع مجيب.

وكان رضي الله عنه يقول: قلة معرفة أخلاق القوم من الحرمان،لأن خرق سياج الأدب معهم يؤدي إلى العطب، والباب مفتوح ما غلق إلا أن القوم واقفون بباب الله والجواب منادمات في الغيب بالغيب.

السابق

 

حول الفقه

 

رابعاً: المحكم

تعريفه وأمثلته: المحكم هو اللفظ الذى وضحت دلالته على معناه ولم يحتمل تأويلا ولا تخصيصا ولا تقييدا ولا نسخا فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعد وفاته.

والمحكم نوعان: أ- محكم لذاته. ������� ب- محكم لغيره.

أولا: المحكم لذاته: وهو ما لا يقبل النسخ لمعناه كان يدل على حكم أساسى فى الدين كالأحكام الاعتقادية مثال ذلك قوله تعالى {والله على كل شئ قدير} وكذلك الأحكام التهذيبية التى تدعونا إلى التحلى بالفضائل والتخلى عن الرذائل، كقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} وقوله أيضا {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} وكذلك النصوص التى جاءت بأخبار ماضية أو مستقبلة كلها محكمة، لأنها لم تكن قابلة للنسخ فى عصر الرسالة، لأنها أحكام أبدية خالدة فى ذاتها، أو هى خبر الله الذى لا يحتمل إلا الصدق.

ثانيا: المحكم لغيره: وهو ما دل على حكم جزئى ولكن اقترن به لفظ يدل على تأبيده، مثال ذلك قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} وكذلك قوله أيضا {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} وقال صلى الله عليه وسلم(الجهاد ماض الى يوم القيامة).

حكم المحكم: وحكم المحكم أنه يجب العمل بما دل عليه قطعا، ولا يحتمل الصرف عن ظاهره ولا النسخ ولا الإبطال، لا فى عهد الرسالة لاقترانه بما يمنع ذلك من قرينة لفظية أو حالية ولا بعد الرسالة لأنه ليس بعد الرسول سلطة نسخ الأحكام الشرعية أو إبطالها أو تغييرها.

وبانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبحت كل النصوص الشرعية محكمة حتى ما كان قابلا للنسخ فى حياته لعدم إمكان نسخها بعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم.

الفرق بين المفسر والمحكم: ويفرق المحكم المفسر فى أن المحكم لا يقبل نسخا مطلقا لا فى حياة الرسول ولا بعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم. أما المفسر فقبل النسخ فى حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما أوضحنا من قبل.

أثر التعارض بين الأقسام الأربعة: قدمنا أن الظاهر والنص والمفسر والمحكم ليست فى درجة واحدة من حيث قوة وضوح الدلالة وإنما هى مراتب فأقواها المحكم ثم المفسر ثم النص ثم الظاهر وذلك لأن المحكم لا يحتمل تأويلا ولا نسخا فكان أقواها، ثم يليه المفسر لأنه لا يحتمل التأويل ولكنه يحتمل النسخ فى عهد الرسالة، يليه النص لاحتماله التأويل والنسخ ولكن سيق الكلام من أجله، يليه الظاهر لاحتماله التأويل والنسخ ولم يسق الكلام من أجله.

ويظهر هذا التفاوت فى الوضوح عند التعارض.

تعارض المحكم مع المفسر: فإذا تعارض محكم مع مفسر قدم المحكم ويمكن التمثيل لذلك بعدم قبول شهادة المقذوف وإن كان عدلا لكونه تائبا بعد إقامة الحد عليه كما قال الحنفية، فيقدم العمل بقوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} لأنه محكم يوجب عدم قبول شهادة من أقيم عليه الحد، وإن كان عدلا لكونه تاب بعد إقامة الحد عليه ويقدم هذا النص على قوله تعالى {وأشهدوا ذوى عدل منكم} لأنه مفسر يقضى بقبول شهادة الشاهدين العدلين ولو كان قد أقيم حد القذف عليهما، وذلك لأن المحكم أقوى من المفسر كما ذهب إليه الحنفية.

تعارض المفسر مع النص: وإذا تعارض المفسر مع النص قدم المفسر مثال ذلك قول الرسول للمستحاضة (توضئى لكل صلاة) مع ما جاء فى رواية أخرى أن النبى قال لها (توضئى لوقت كل صلاة) فالحديث الأول نص فى إيجاب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة ولو أن الوقت واحد وهذا النص يحتمل التأويل إذ يحتمل تقدير مضاف، والحديث الثانى مفسر فى إيجاب الوضوء لوقت كل صلاة ثم تصلى بهذا الوضوء ما شاءت من الفرائض والنوافل وهذا الحديث لا يحتمل التأويل فيقدم الحديث الثانى المفسر على الحديث الأول النص الذى يحتمل التأويل.

تعارض المحكم مع النص: وإذا كان المفسر يقدم على النص، فمن باب أولى يقدم المحكم على النص إذا تعارضا، مثال ذلك قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} فإنه نص فى إباحة ما عدا المحرمات المذكورات قبله، وبهذا يكون شاملا لزوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله، ولكن قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} فإنه محكم يفيد تحريم الزواج بإحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله، ولما كانت الآية الأولى من قبيل النص والثانية من قبيل المحكم فتقدم الثانية على الأولى ويعمل بها.

تعارض النص مع الظاهر: وإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، مثال قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بعد بيان المحرمات وقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} فالآية الأولى من قبيل الظاهر حيث تدل على إباحة التزوج بما زاد على أربع غير المحرمات من النساء ولم تسق هذه الآية أصالة لإفادة هذا الحكم وإنما المقصود الأصلى فيها إباحة ما عدا المحرمات من النساء المذكورة فى الآية قبلها والآية الثانية من قبيل النص فى تحريم الزيادة على الأربع لأن هذا هو المعنى القصود من السياق لأن الآية مسوقة أصالة لإفادة هذا الحكم، لهذا كان الحكم الثابت بالآية الثانية (النص) مرجحا على الحكم الثابت بالآية الأولى (الظاهر).

تعارض المحكم مع الظاهر: وإذا كان النص يقدم على الظاهر، فمن باب أولى يقدم المحكم على الظاهر إذا تعارضا، مثال ذلك قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} يقدم على قوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} فإن الآية الأولى محكمة كما قدمنا، والآية الثانية من قبيل الظاهر فى إباحة جميع النساء والمحكم أقوى من الظاهر فيعمل به ولا يعمل بالظاهر.