حول الفقه
رابعاً: المحكم
تعريفه وأمثلته: المحكم هو اللفظ الذى وضحت دلالته على معناه ولم يحتمل
تأويلا ولا تخصيصا ولا تقييدا ولا نسخا فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعد
وفاته.
والمحكم نوعان: أ- محكم لذاته. �������
ب- محكم لغيره.
أولا: المحكم لذاته: وهو ما لا يقبل النسخ لمعناه كان يدل على حكم أساسى فى الدين كالأحكام
الاعتقادية مثال ذلك قوله تعالى {والله على كل شئ قدير} وكذلك الأحكام التهذيبية
التى تدعونا إلى التحلى بالفضائل والتخلى عن الرذائل، كقوله تعالى {وقضى ربك ألا
تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} وقوله أيضا {وأوفوا بالعهد إن العهد كان
مسئولا} وكذلك النصوص التى جاءت بأخبار ماضية أو مستقبلة كلها محكمة، لأنها لم تكن
قابلة للنسخ فى عصر الرسالة، لأنها أحكام أبدية خالدة فى ذاتها، أو هى خبر الله
الذى لا يحتمل إلا الصدق.
ثانيا: المحكم لغيره: وهو ما دل على حكم جزئى ولكن اقترن به لفظ يدل على تأبيده، مثال ذلك
قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا}
وكذلك قوله أيضا {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين
جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} وقال صلى الله عليه وسلم(الجهاد ماض الى يوم
القيامة).
حكم المحكم: وحكم المحكم أنه يجب العمل بما دل عليه قطعا، ولا يحتمل الصرف عن
ظاهره ولا النسخ ولا الإبطال، لا فى عهد الرسالة لاقترانه بما يمنع ذلك من قرينة
لفظية أو حالية ولا بعد الرسالة لأنه ليس بعد الرسول سلطة نسخ الأحكام الشرعية أو
إبطالها أو تغييرها.
وبانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبحت كل النصوص الشرعية محكمة
حتى ما كان قابلا للنسخ فى حياته لعدم إمكان نسخها بعد انتقاله صلى الله عليه وآله
وسلم.
الفرق بين المفسر والمحكم: ويفرق المحكم المفسر فى أن المحكم لا يقبل نسخا مطلقا لا فى حياة
الرسول ولا بعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم. أما المفسر فقبل النسخ فى حياة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما أوضحنا من قبل.
أثر التعارض بين الأقسام الأربعة: قدمنا أن الظاهر والنص والمفسر والمحكم ليست فى درجة واحدة من حيث قوة
وضوح الدلالة وإنما هى مراتب فأقواها المحكم ثم المفسر ثم النص ثم الظاهر وذلك لأن
المحكم لا يحتمل تأويلا ولا نسخا فكان أقواها، ثم يليه المفسر لأنه لا يحتمل
التأويل ولكنه يحتمل النسخ فى عهد الرسالة، يليه النص لاحتماله التأويل والنسخ ولكن
سيق الكلام من أجله، يليه الظاهر لاحتماله التأويل والنسخ ولم يسق الكلام من أجله.
ويظهر هذا التفاوت فى الوضوح عند التعارض.
تعارض المحكم مع المفسر: فإذا تعارض محكم مع مفسر قدم المحكم ويمكن التمثيل لذلك بعدم قبول
شهادة المقذوف وإن كان عدلا لكونه تائبا بعد إقامة الحد عليه كما قال الحنفية،
فيقدم العمل بقوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} لأنه محكم يوجب عدم قبول شهادة من أقيم
عليه الحد، وإن كان عدلا لكونه تاب بعد إقامة الحد عليه ويقدم هذا النص على قوله
تعالى {وأشهدوا ذوى عدل منكم} لأنه مفسر يقضى بقبول شهادة الشاهدين العدلين ولو كان
قد أقيم حد القذف عليهما، وذلك لأن المحكم أقوى من المفسر كما ذهب إليه الحنفية.
تعارض المفسر مع النص: وإذا تعارض المفسر مع النص قدم المفسر مثال ذلك قول الرسول للمستحاضة
(توضئى لكل صلاة) مع ما جاء فى رواية أخرى أن النبى قال لها (توضئى لوقت كل صلاة)
فالحديث الأول نص فى إيجاب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة ولو أن الوقت واحد وهذا
النص يحتمل التأويل إذ يحتمل تقدير مضاف، والحديث الثانى مفسر فى إيجاب الوضوء لوقت
كل صلاة ثم تصلى بهذا الوضوء ما شاءت من الفرائض والنوافل وهذا الحديث لا يحتمل
التأويل فيقدم الحديث الثانى المفسر على الحديث الأول النص الذى يحتمل التأويل.
تعارض المحكم مع النص: وإذا كان المفسر يقدم على النص، فمن باب أولى يقدم المحكم على النص
إذا تعارضا، مثال ذلك قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} فإنه نص فى إباحة ما عدا
المحرمات المذكورات قبله، وبهذا يكون شاملا لزوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بعد انتقاله، ولكن قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا
أزواجه من بعده أبدا} فإنه محكم يفيد تحريم الزواج بإحدى زوجات الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم بعد انتقاله، ولما كانت الآية الأولى من قبيل النص والثانية من قبيل
المحكم فتقدم الثانية على الأولى ويعمل بها.
تعارض النص مع الظاهر: وإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، مثال قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء
ذلكم} بعد بيان المحرمات وقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع} فالآية الأولى من قبيل الظاهر حيث تدل على إباحة التزوج بما زاد على أربع
غير المحرمات من النساء ولم تسق هذه الآية أصالة لإفادة هذا الحكم وإنما المقصود
الأصلى فيها إباحة ما عدا المحرمات من النساء المذكورة فى الآية قبلها والآية
الثانية من قبيل النص فى تحريم الزيادة على الأربع لأن هذا هو المعنى القصود من
السياق لأن الآية مسوقة أصالة لإفادة هذا الحكم، لهذا كان الحكم الثابت بالآية
الثانية (النص) مرجحا على الحكم الثابت بالآية الأولى (الظاهر).
تعارض المحكم مع الظاهر: وإذا كان النص يقدم على الظاهر، فمن باب أولى يقدم المحكم على الظاهر
إذا تعارضا، مثال ذلك قوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا
أزواجه من بعده أبدا} يقدم على قوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} فإن
الآية الأولى محكمة كما قدمنا، والآية الثانية من قبيل الظاهر فى إباحة جميع النساء
والمحكم أقوى من الظاهر فيعمل به ولا يعمل بالظاهر.
|