|
من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني -
25 |
وكان رضي الله عنه يقول: المريد من شيخه على صورة الميت لا حركة ولا
كلام ولا يقدر أن يتحدث بين يديه إلا بإذنه، ولا يعمل شيئاً إلا بإذنه من زواج أو
سفر أو خروج أو دخول أو عزلة أو مخالطة أو اشتغال بعلم أو قرآن أو ذكر أو خدمة في
الزاوية أو غير ذلك. وهكذا كانت طريق السلف والخلف مع أشياخهم فإن الشيخ هو والد
السر ويجب على الولد عدم العقوق لوالده ولا تعرف للعقوق ضابطاً نضبطه به إنما
الأمر عام في سائر الأحوال وما جعلوه إلا كالميت بين يدي الغاسل فعليك يا ولدي
بطاعة والدك وقدمه على والد الجسم فإن والد السر أنفع من والد الظهر لأنه يأخذ
الولد قطعة حديد جامد فيسكبه ويذيبه ويقطره ويلقي عليه من سر الصنعة سراً فيجله
ذهباً إبريزا فاسمع يا ولدي تنتفع وكثير من الفقراء صحبوا أشياخهم حتى ماتوا ولم
ينتفعوا لعدم الأدب. وبعضهم مقتوا آه من صدود الرجال ومن صحبة الأضداد ومن سماع
المريد للمحال.
وكان رضي الله عنه يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي
رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعَتهُ بيدي ألبس منهم من شئت، أن
في المساء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتهَا، وبيدي جنة
الفردوس فتحتها من زارني أسكنته جنة الفردوس. واعلم يا ولدي أنا أولياء اللّه
تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون متصلون باللّه، وما كان ولي متصل باللّه
تعالى إلا وهو يناجي ربه، كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه وما من ولي إلا
ويحمل على ا لكفار كما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل. وقد كنت أنا
وأولياء اللّه تعالى أشياخا في الأزل بين يدي قديم الأزل وبين يدي رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم وإن اللّه عز وجل خلقني من نور رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي فخلعت عليهم بيدي. وقال لي رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم يا إبراهيم أنت نقيب عليهم، فكنت أنا ورسول اللّه صلى الله عليه
وسلم وأخي عبدالقادر خلفي وابن الرفاعي خلف عبدالقادر ثم التفتَ إليَّ رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم وقال لي يا إبراهيم سر إلى مالك وقل له يغلق النيران وسر إلى
رضوان وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به ورضوان ما أمر به وأطال في معاني
هذا الكلام. ثم قال رضي الله عنه: وما يعلم ما قلته إلا من انخلع من كثافة حجبه
وصار مروضاً كالملائكة. قلت: وهذا الكلام من مقام الاستطالة تعطي الرتبة صاحبها أن
ينطق بما ينطق وقد سبقه إلى نحو ذلك الشيخ عبدالقادر الجيلي رضي الله عنه وغيره
فلا ينبغي مخالفته إلا بنص صريح والسلام. وهو إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن محمد
بن أبي النجاء بن زين العابدين بن عبدالخالق بن محمد بن أبي الطيب بن عبد اللّه
الكاتم بن عبدالخالق بن أبي القاسم ابن جعفر الزكي بن علي بن محمد الجواد بن علي
الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزاهد بن علي زين
العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي رضي اللّه عنهم أجمعين، تفقه
على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ثم اقتفى آثار السادة الصوفية وجلس في مرتبة
الشيخوخة وحمل الراية البيضاء وعاش من العمر ثلاثاً وأربعين سنة ولم يغفل قط عن
المجاهدة للنفس والهوى والشيطان حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة رضي الله عنه.
(ومن نظمه رضي الله عنه ورحمه)
سقاني محبوبي بكأس المحــبـــة فتهت عن العشاق سكرا بخلـــوتي
ولاح لنا نور الجلالة لــو أضـــا لصمِّ الجبال الراسيات لـــدكــت
وكنت أنا الساقي لمن كان حاضــرا أطوف عليهم كرة بعد كــــــرة
وناد مني سراً بسر وحكـمـــــة وإن رسول اللّه شيخي وقـــدوتي
وعاهدني عهداً حفظت لعهـــــده وعشت وثيقاً صادقاً بمحبــــتي
وحكمني في سائر الأرض كلهــــا وفي الجن والأشباح والمرديـــة
وفي أرض صين الصين والشرق كلها لأقصى بلاد اللّه صحت ولايتـــي
أنا الحرف لا أقْر لكل مناظــــرٍ وكل الورى من أمر ربي رعيتــي
وكم عالم قد جاءنا وهو منكــــر فصار بفضل اللّه من أهل خـرقتي
وما قلت هذا القول فخرا وإنــمـا أتى الإذن كي لا يجهلون طـريقتي
وله أيضاً عفا اللّه عنا بـه
تجلى لي المحبوب في كل وجـهة فشاهدته في كل معنىً وصــورة
وخاطبني مني بكشف سرائــري
فقال أتدري من أنا قلت منيتــي
فأنت منائي بل أنا أنت دائــماً إذا كنت أنتَ اليوم عين حقيقـتي
فقال كذاك الأمر لكنــــه إذا تعينت الأشياء كنت كنسختــي
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاتـه
بغير حلول بل بتحقيق نسبتـي
فصرت فناء في بقاء مؤبــد لذات بديمومة سرمديـــــة
وغيبني عني فأصبحت سائـلاً لذاتي عن ذاتي لشغلي بغيبتـي
وأنظر في مرآة ذاتي مشاهــداً لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتــي
فأغدوا وأمري بين أمرين واقف علومي تمحوني ووهمي مثبتـي
خبأت له في جنة القلب منـزلاً ترفع عن دعد وهند وعلـــوة
أنا ذلك القطب المبارك أمــره فإن مدار الكل من حلول ذروتي
أنا شمس أشراق العقول ولم أفلْ ولا غبت إلا عن قلوب عميــة
يروني في المرآة وهي صديــة وليس يروني بالمرآة الصقيلــة
وبي قامت الأنباء في كل أمـة بمختلف الآراء والكل أمـتـــي
ولا جامع إلا ولي فيه مـنبـــر وفي حضرة المختار فزت ببغيتي
وما شهدت عيني سوى عين ذاتها وإن سواها لا يلمُّ بفكرتــــي
بذاتي تقوم الذات فـي كل ذروة أجدد فيها حلة بعـــد حـلـة
فليلى وهند والرباب وزينــب وعلوى وسلمى بعدها وبثـينــة
عبارات أسماء بغير حقيــقــة وما لوحوا بالقصد إلا لصــورتي
نعم نشأتي في الحب مــن قبل آدم وسري في الأكوان من قبـل نشأتي
أنا كنت في العلياء مع نور أحمـد على الدرة البيضاء في خلويتــي
أنا كنت في رؤيا الذبيـــح فداءه بلطف عنايات وعين حقيقــــة
أنا كنت مع ادريس لما أتى العـلا وأسكن في الفردوس أنعم بقعــة
أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقاً وأعطيت داوودا حلاوة نغمـــة
أنا كنت مع نوح بما شهـد الورى بحاراً وطوفاناً على كف قـــدرة
أنا القطب شيخ الوقت في كل حالة أنا العبد إبراهيم شيخ الطـريقــة
قلت: وجميع ما فيه استطالة من هذه الأبيات إنما هو بلسان الأرواح ولا
يعرفه إلا من شهد صدور الأرواح من أين جاءت وإلى أين تذهب وكونها كالعضو الواحد من
المؤمن إذا اشتكى فيه ألما تداعى له سائر الجسد وذلك خاص بالكامل المحمدي لا يعرفه
غيره. وقد كان سهل بن عبد اللّه التستري رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم
ألست بربكم وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني ومن كان عن شمالي ولم أزل من ذلك
اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا نقله ابن العربي رضي
الله عنه في الفتوحات.
وكان رضي الله عنه يقول: أشهدني اللّه تعالى ما في العلى وأنا ابن ست
سنين ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع
سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت
اللّه تعالى على معرفته. وحركت ما سكن وسكنتُ ما تحرك بإذن اللّه تعالى وأنا ابن
أربع عشرة سنة والحمد لله رب العالمين هذا ما لخصته من كتاب الجوهرة له رضي الله
عنه وهو مجلد ضخم.
الباب الثالث
بدء أصل الطرق الصوفية
اعلم يا أخا الـعقل أن اللّه تعالى لما أمرعباده أن يدعوه - أي
يذكروه - بأسمائه تعالى الحسنى طلب الكثير من الصحابة من حضرة من أسند اللّه تعالى
إلى حضرته البيان والتبيين أن يتعلموا كيف يكون الذكر بأسماء اللّه تعالى والأعداد
التي يذكرونه. فأبان لهم صلى الله عليه وسلم: أن أفضل الذكر، إما أن يكون باسم
الذات وهو اللّه تعالى، أو باسم النفي والاثبات وهو لا إله إلا اللّه. وإما أن
يكون سراً أو جهراً، أو يكون جامعاً لكلتا الحالتين كما قال تعالى: {واذكر ربك في
نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول} الآية فبين صلى الله عليه وسلم الذكر
السري في قوله الشريف عن سعد بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (خير
الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي). وعن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت: كان
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفضل الصلاة التي يستاك لها، على الصلاة التي لا
يستاك لها سبعين ضعف. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (لفضل الذكر الخفي الذي
لا يسمعه سبعون ضعفا). فيقول إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق لحسابهم وجاءت
الحفظة بما حفظوا واكتبو. قال اللّه لهم: أنظروا هل بقي له من شيء؟ فيقولون: ربنا
ما تركنا شيئا مما علمناه وحفظناه إلا وقد أحصيناه وكتبناه، فيقول اللّه تبارك
وتعالى له: إن لك عندي خبيئاً لا تعلمه، وأنا أجزيك به وهو الذكر الخفي، فاختار
الصديق الأكبر رضي الله عنه أن يعلمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الذكر الخفي
والذكر الجهري فلقنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اسم الذات بالسر وهو (اللّه) واسم
النفي والإثبات بالجهر وهو (لا إلا إلا اللّه) فدأب عليهما رضي الله عنه ليكون
جامعاً بين السر والجهر، والظاهر والباطن والحقيقة، والشريعة. والقول والفعل، فكان
من إخلاصه رضي الله عنه وشدة مراقبته احترق كبده وقد شهر عنه أنه كان يشم من نفسه
رائحة الكبد المشوي، وشهر من وصفه الذاتي ما رواه في مجمع الزوائد عن السيدة عائشة
رضي اللّه عنه. قالت: كان غزيز الدمعة وقيد الجوانح، أي محزون القلب كأن الحزن قد
كسره وضعفه، يرى عليه الإنكسار، وشدة الخوف من اللّه، شجي النشيد، يعني أن من
يسمعه وهو يقرأ يحزن لسماع قراءته لشدة اخلاصه، إذا ما سمعته كأنك تسمع
اللّه يقول: كيف لا وهو القائل: {إن اللّه لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ
الأمور عنده ما أراد). وقد قال رضي الله عنه (لا آمن مكر اللّه ولو احدى قدمي داخل
الجنة) وقد قال عند سماعه من حضرته صلى الله عليه وسلم (الصلاة في أول الوقت في
رضوان اللّه، وفي وسط الوقت في رحمة اللّه، وفي آخر الوقت في عفو اللّه) فقد قال
الصديق رضي الله عنه (لأن أكون في رضوان اللّه تعالى خير لي من أن أكون تحت عفو
اللّه). وهكذا كل من سلك على مبدئه، ونسج على منواله، وشرب من مشربه يفيض اللّه
تعالى عليه، كما قال تعالى {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل
اللّه يؤتيه من يشاء} الآيات وممن حاز هذا الفضل والفخار السيد محمد بهاء الدين
الذي عرف عنه أنه نقش الاسم على قلبه، فشهر بالنقشبندي بالفارسية وشهرت من الصديقية
إلى النقشندية وفرعت وكثر فيها الأفاضل واشتهر فيها أهل الحزم والعزم وإن
أردت أن تعرفهم فاضلاً عن فاضل، فاتبع أسانيدهم تجدها كسلسـلة المحدثين والقراء
للكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
واعلم أن من مقتضيات حكم العليم الخبير سبحانه وتعالى أن جعل مقام أهل
الاحسان أعلى المقامات في الدين الإسلامي، كما قدمنا وهم الربانيون أهل اللّه تعالى
وخاصته من خلقه، ولذا جعل نشر مبادئهم على زوجين ولا ثالث لهما بين جميع المسلمين
على الاطلاق، وهم الصديقية الذين أصلهم سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلوية
وهو الذين أصلهم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم اللّه تعالى وجهه، هذا
وإن كان صلى الله عليه وسلم أعطى العهد لكثير من الصحابة كسيدنا أنس بن مالك، خادم
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، كما ينتهي إليه أحد سندي سيدي أبي
الحسن الشاذلي، والآخر عن سيدنا علي رضي اللّه تعالى عنهم.
وممن أخذ العهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا سلمان
الفارسي، وسيدنا أبو هريرة، وسيدنا ابن مسعود، وسيدنا حذيفة بن اليمان، وغيرهم. لو
استقصيناه لضاق بنا المقام.
السابق
التالي
|