عبدالله بن عمرو بن العاص���
رضي الله عنه
عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشـي، يُقال كان اسمه العاص
فسمّاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبدالله، وقد سبق أباه عمرو بن العاص للإسلام
ومنذ أن أسلم لم يعد الليل والنهار يتّسعان لتعبّـده ونسكـه، فعكـف على القرآن
ئيحفظه ويفهمه، وجلس في المسجد متعبدا، وفي داره صائما وقائما، لا ينقطع عن الذكر
أبدا، وإذا خرج المسلمون لقتال المشركين خرج معهم طالبا للشهادة.
�كان
عبدالله -رضي الله عنه- إذا لم يكن هناك خروج لغزو يقضي أيامه من الفجر الى الفجر
في عبادة موصولة، صيام وصلاة وتلاوة القرآن، ولسانه لا يعرف إلا ذكر الله وتسبيحه
واستغفاره، فعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإيغال عبدالله بالعبادة، فاستدعاه
وراح يدعوه الى القصد في العبادة فقال الرسول الكريم:� ألَم أخْبَر أنك تصوم النهار لا تفطر، وتصلي
الليل لا تنام� فحَسْبُك أن تصوم من كل شهر
ثلاثة أيام�� فقال عبدالله:� إني أطيق أكثر من ذلك�� قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:� فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين�� قال عبدالله:�
فإني أطيق أكثر من ذلك�� قال رسول
الله:� فهل لك إذن في خير الصيام، صيام
داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوم. وعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسأله قائلا:� وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة، وإني أخشى أن
يطول بك العمر وأن تملَّ قراءته اقرأه في كل شهر مرة اقرأه في كل عشرة أيام مرة
اقرأه في كل ثلاثٍ مرة�� ثم قال له:� إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء،
فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليس مني. ولقد عَمَّـرَ عبدالله بن عمـرو طويلا، ولمّا
تقدمـت به السـن ووَهَـن منه العظـم، كان يتذكر دائما نُصْـحَ الرسول فيقول:� يا ليتني قبلـت رُخصـة رسـول اللـه�� قال عبدالله بن عمرو:� كنتُ أكتب كلَّ شيءٍ أسمعه من رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا:�
إنّك تكتب كلَّ شيءٍ تسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله
بشرٌ يتكلم في الغضب والرضى� فأمسكت عن
الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:� اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلا حق.
قال أبو هريرة:� ما كان أحدٌ
أحفظ لحديث رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- منّي إلا عبدالله بن عمرو، فإنّي
كنت أعي بقلبي، ويعي بقلبه ويكتب. وعن مجاهد قال: دخلتُ على عبدالله بن عمرو بن
العاص، فتناولتُ صحيفةً تحت رأسه، فتمنّع عليّ فقلت:� تمنعني شيئاً من كتبك�� فقال:�
إنّ هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتُها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس
بيني وبينه أحد، فإذا سَلِمَ لي كتاب الله، وسلمتْ لي هذه الصحيفة، والوَهْط -وهو
بستان عظيم كان بالطائف لعبد الله- لم أبالِ ما صنعتِ الدني. قال عبدالله بن عمرو
بن العاص:� ابن عباس أعلمنا بما مضى،
وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيئاً��
قال عكرمة: فأخبرتُ ابن عباس بقوله فقال:�
إنّ عنده لعلما، ولقد كان يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحلال
والحرام. قال عبدالله بن عمرو:� إنّ هذا
الدّينَ متينٌ فأوغلوا فيه برفق، ولا تُبَغِّضوا إلى أنفسكم عبادة الله عزّ وجل،
فإنّ المنبتَّ لا بلغ بُعْدا، ولا أبقى ظهرا، واعملْ عملَ امرىءٍ يظنّ ألا يموت
إلا هَرِما، واحذرْ حذرَ امرىءٍ يحسب أنّه يموتُ غد. وقال:� لأن أكون عاشرَ عشرةٍ مساكين يوم القيامة أحبُّ
إليّ من أكون عاشر عشرة أغنياء، فإنّ الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال:
هكذا وهكذا، يقول: يتصدق يميناً وشمال. وقال عبدالله:� ما أعطي إنسانٌ شيئاً خيراً من صحّةٍ وعِفّة،
وأمانةٍ وفقهٍ�� وقال عمرو بن العاص لإبنه:� يا بُني، ما الشرف��� قال:�
كفّ الأذى، وبذلُ الندَى�� قال:� فما المروءة قال:� عرفان الحق، وتعاهد الصنعة�� قال:� فما
المجد�� قال:� احتمال المغارم وابتناء المكارم�� وسأله:�
ما الغي�� قال:� طاعةُ المُفْسِد، وعصيانُ المُرْشِدِ�� قال:� فما
البله�� قال:� عَمى القلب، وسرعة النسيان.
مرّ العلاء بن طارق بعبد الله بن عمرو بن العاص بينما كان يُصَلّي
وراء المقام وهو يبكي، وقد كَسَفَ القمر -أو خَسَفَ القمر- فوقف يسمع فقال:� ما توقفك يابن أخي� تعجب من أنّي أبكي� والله إنّ هذا القمر يبكي من خشية الله، أمَا
والله لو تعلمون علم اليقين لبكى أحدكم حتى ينقطع صوته، ولسجد حتى ينقطع صلبه. رأينا
كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة إقبالا كبيرا، الأمر الذي كان يشغل بال
أبيه عمرو بن العاص دائما، فيشكوه الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرا، وفي
المرة الأخيرة التي أمره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدّد له مواقيتها كان
عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله ووضعها في يد عمرو بن العاص أبيه وقال الرسول
له:� افعل ما أمرتك، وأطِعْ أباك� فكان لهذا العبارة تأثيرا خاصا على نفس عبدالله
-رضي الله عنه- وعاش عمره الطويل لا ينسى لحظة تلك العبارة الموجزة. عندما قامت
الحرب بين طائفتين من المسلمين، علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان اختار عمرو
بن العاص طريقه الى جوار معاوية، وكان يدرك مدى حب المسلمين وثقتهم بابنه عبدالله،
فحين همّ بالخروج الى صِفّين دعاه إليه ليحمله على الخروج الى جانب معاوية فقال له:� يا عبدالله تهيأ للخروج، فإنك ستقاتل معنا�� وأجاب عبدالله:� كيف�
وقد عهد إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أضع سيفا على عنق مسلم
أبد. وحاول عمرو أن يقنعه بأنهم إنما يريدون الخروج ليصلوا الى قتلة عثمان وأن
يثأروا لدمه الطاهر ثم ألقى مفاجأته على ابنه قائلا:� أتذكر يا عبدالله آخر عهد عهده إليك النبي -صلى
الله عليه وسلم- حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطِعْ أباك� فإني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل�� وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه، وفي عزمه
ألا يحمل سيفا ولا يقاتل مسلما، ونشب القتال حاميا ويختلف المؤرخون فيما إذا كان
عبدالله قد اشترك في بداية القتال أم لا، ونقول ذلك لأنه ما لبث أن حدث شيء عظيم
جعل عبدالله يغير موقفه ويصبح ضد معاوية. لقد قاتل عمّار بن ياسر مع علي بن أبي
طالب وقُتِلَ على يد جند معاوية، ومن المعلوم لعبد الله بن عمرو بن العاص أن
عمّارا ستقتله الفئة الباغية، فقد تنبأ بذلك الرسول الكريم حينما كانوا يبنون مسجد
الرسول في المدينة، وكان عمّار يحمل الحجارة فرحا فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وعيناه تدمعان:� ويْحُ ابن سُميّة، تقتله
الفئة الباغية.
وسمع ذلك الصحابة وعبدالله معهم، وهاهو عمّار تواصى بقتله جماعة من
جيش معاوية فسدّدوا نحوه رمية آثمة، استشهد منها عمّار بن ياسر، وسرى خبر مقتله
كالريح، فانتفض عبدالله بن عمرو ثائرا مُهْتاجا:�
أوَ قد قُتِلَ عمّار� وأنتم
قاتلوه� إذن أنتم الفئة الباغية، أنتم
المقاتلون على ضلالة !!� وانطلق في جيـش
معاوية كالنذيـر، يُثيِـط عزائمهم، ويهتف بأنهم بغـاة لأنهم قتلوا عمّارا، وتحققـت
نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وحُمِلَت مقالة عبدالله الى معاوية، فدعا عمرو
وابنه عبدالله وقال لعمرو:� ألا تكُفَّ عنا
مجنونك هذا�� قال عبدالله:� ما أنا بمجنون، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول لعمار تَقْـتُـلُكَ الفئة الباغية�� قال له معاوية:� فلم خَرَجْت معنا� قال عبدالله:�
لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي، وقد أطعتُه في الخروج، ولكني لا أقاتل
معكم. وإذ هُما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمّار في الدخول، فصاح
عبدالله بن عمرو:� ائذن له، وبشّره
بالنار�� وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من
طول أناته وسعة حِلُمه وصاح بعمرو:� أوتَسْمَع
ما يقول�� وعاد عبدالله الى هدوء المتقين
مؤكدا لمعاوية أنه لم يقل إلا الحق، والتفت صوب أبيه وقال:� لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا
المسير�� وعاد عبدالله بن عمرو -رضي الله
عنه- الى مسجده وعبادته، ونجح معاوية وعمرو من السيطرة على الجيش وإفهامه أن من قتل
عمّارا هم من خرجوا به الى القتال، واستأنف الفريقان القتال.
وعاش عبدالله -رضي الله عنه- حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبُّده،
غير أن خروجه الى صفّين ظل مبعث قلق له على الدوام، وكلما تذكر يبكي ويقول:� مالي ولِصِفّين� مالي ولقِتال المسلمين. ذات يوم، وهو جالس في
مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع بعض أصحابه مر بهم�� الحسين بن علي�� فتبادلا السلام، ولما مضى عنهم قال عبدالله
لمن معه:� أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض
الى أهل السماء� إنه هذا الذي مرَّ بنا
الآن، وإنه ما كلمني منذ صفّين، ولأن يرضى عني، أحب إلي من حُمر النَّعَم. واتفق مع
أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين، وهناك تم لقاء الأكرمين، وعندما ذُكِرَت صفّين،
سأله الحسين معاتبا:� ما الذي حملك على
الخروج مع معاوية�� قال عبدالله:� ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وقال له:� إن عبدالله يصوم
النهار كله، ويقوم الليل كله، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:� يا عبدالله صلّ ونم، وصُم وأفطر، وأطِع
أباك� ، ولما كان يوم صفّين أقسم علي أبي
أن أخرج معهم، فخرجت ولكن والله، ما اختَرَطْت سيفا، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم.
دخل عبدالله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة مُحَرّقة حين أدبر جيش
الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناسٌ غير قليل، فبكى وقال:� والله لو أنّ أبا هريرة أخبركم أنّكم قاتلو ابن
نبيّكم، ومحرّقُوا بيتَ ربّكم لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة، أنحن نقتل ابنَ
نبيّنا، ونحرق بيتَ ربّنا عزّ وجل ! فقد والله فعلتم، فانتظروا نقمة الله عزّ وجل،
فوالذي نفسي بيده ليَلْبِسَنَّكُمُ الله شِيَعا، ويُذيقُ بعضَكم بأسَ بعضٍ�� قالها ثلاثاً ثم نادى بصوتٍ فأسمع:� أين الآمرون بالمعروف� والناهون عن المنكر� والذي نفسُ عبدالله بيده لقد ألبسَكم الله
شيعا، وأذاق بعضكم بأس بعض، لبطنُ الأرض خيرٌ لمن عليها لمن لم يأمر بالمعروف ولم
ينهَ عن المنكر. وحين بلوغه الثانية والسبعين من عمره المبارك، وإذ هو في مُصلاّه،
يتضرع الى ربه، ويسبح بحمده، دُعيَ الى رحلة الأبد، فذهبت روحه تسعى وتطير الى
لقاء الأحبة، توفي عبدالله بن عمرو بن العاص ليالي الحرّة سنة��
63 هـ�
من شهر ذي الحجة.
�من
سير أعلام النبلاء
أولياء الله على أرض
مصر
سيدي الخضيري رضي الله عنه
فهو رضي الله عنه سيدي سليمان أبوالربيعين الزبيري الحسيني الذي ينتهي
نسبه إلى سيدنا ثابت بن عبدالله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين، والمراد
بكلمة الربيعين أي علم الظاهر وعلم الباطن، وكان رحمه الله كريماً عفيف النفس لا
يذكر أحد بنقصان ولا يحب أن يسمع من أحد ذلك، وكان رضي الله عنه يقول لا يذكر نقائص
الناس إلا ناقص، وكان شأنه الصمت.
وكان رضي الله عنه على جانب كبير من الثراء فقد أوقف لزاويته هذه
كثيراً من الأراضي الزراعية للصرف عليها وعلى المريدين والمحبين واطعام الفقراء
والمساكين.
وتوفي رضي الله عنه سنة
965هـ ودفن بزاويته هذه، وقام ابنه سيدي أحمد
بدور أبيه من بعده حتى توفي ودفن بجوار أبيه، كما يوجد بالضريح أيضاً السيد حمزة
الخضيري من نسل الشيخ رضي الله عنهم أجمعين، كما توجد مقصورة أخرى بها ضريح السيد
تاج الدين.
إشراف
الشيخ دسوقي الشيخ إبراهيم
السابق
التالي |
|