عبير التاريخ

حـب الراهـب

الراهب بحيرا كلما ذكر الحبيب أكثر النحيب حتى أشرف ركب الحجاز وقد أشرقت الأنوار من جبين المختار، فنظروا الأنوار قد تلألأت، والركب قد أقبل ويتقدمهم سيد العرب والعجم، وقد انتشر على رأسه الغمام فقال الأبناء: يا أبانا هذا ركب الحجاز قد أقبل، فقال: يا أولادى كم ركب قد أتى وأنا أعلل نفسى بعسى ومتى؟ فقالوا: هذا النور علا ولمع وسنا، فأنشأ يقول:

بدا النور من وجه الحبيب فأشرقا������   وأحيا محيا بالصبابة مــــوثقا

وأبرى عيونا عميت من البكــا         وأصبح مأسور المكـــاره مطلقا

ها قد ترى عينا طلعة وجـــهه��      لأصبح من رق الضلالة معتقــا

ثم قال يا أولادى إن كان هذا النبى المبعوث من تهامة فـي الركب فإنه ينزل تحت هذه الشجرة فإنها تخضر وتثمر، فلم يجلس تحتها إلا نبى، وإنها من عهد سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام يابسة لم تخضر ولم تثمر، وهذه البئر لها مدة من الزمن لم يُر فيه ماء، فإنه يأتى إليها ويشرب منها.

فأقبل صلوات ربى وسلامه عليه حتى نزل تحت الشجرة، فلما جلس تحتها اخضرت فـي الحال وأورقت وأثمرت من وقتها ولما استقر به الجلوس مشى إلى البئر ونظر فيه وَتَفَلَ فيه فتفجرت منه عيون كثيرة ونبع منه الماء، فأخبر الأولاد أباهم فقال: يا أولادى هذا هو الحبيب المطلوب، فنحر النحائر وصنع الولائم من أفخر الطعام ليتشرف بأقدام سيد الأنام، ويتشرف ديره بوطء أقدامه، وليأخذ منه الأمان والشفاعة لسائر الرهبان، فتبادر الأولاد والخدام لأمره طائعين ولكلامه مستمعين، فصنعوا طعام يناسب الملوك، فعندها أرسل الراهب بعض الرهبان حتى أتوا القافلة ودعوا العرب إلى وليمتهم، فسار القوم إلا النبى صلوات ربى وسلامه عليه فإنه قد مكث عند متاعهم لأمانته، فلما دخلوا الدير أحضروا لهم الطعام وتلقوهم بالترحاب والإكرام فأخذ القوم فـي الأكل، وسأل الراهب أبناءه هل علا الباب القصير فقالوا لا، فصاح الراهب ونادى واخيبتاه وافضيحتاه واطول تعباه واعظم حزناه ثم أخذ فـي البكاء وأنشأ يقول:

يا أهل نجد تقضى العمر في أسف         منكم وقلبى لم يبلغ أمــــانيه

يا ضيعة العمر لا وصل أفوز به ��  ���من قربكم لا ولا وعد أرجيـــه

إن كان الذى أهواه مبتــــعدا �      عنى فوا حزنى إن لم ألاقيـــه

ثم مسح دموعه ونادى بأعلى صوته: يا سادات العرب يا أهل المكارم والمعالى والرتب هل بقى من جمعكم أحدا لم يحضر معكم ويأكل من وليمتى؟ فأجابه القوم بأن الصادق الأمين عند أموالنا، فقال يا قوم لا تتركوا أحداً إلا أن يأكل من وليمتى.. فادعوه، فلما حضر ودخل من الباب القصير، ارتفع له الباب حتى لا ينحنى، فقام الرهبان جميعهم له إجلالا وهيبة وإكراما وأجلسوه فـي وسطهم فـي أعلى مقام وأرفع مكان، ثم وقفوا حوله ومدحوه بأفصح لسان، ثم انفرد به بحيرا واستحلفه باللات والعزة أن يجيبه على بعض أسئلة فأبى الحبيب هذا القسم، فلما استحلفه بالله قال له الحبيب: اسأل، فطلب منه أن يمسح على وجهه فلما مسح الحبيب على وجهه عاد له بصره، فرمق بحيرا بطرفه إلى السماء وقال: إلهى وسيدى ومولاى أرنى خاتم النبوة فأرسل الله تعالى الروح الأمين جبريل عليه السلام ورفع ثياب الحبيب من ظهره، فظهر خاتم النبوة وسطع كالشمس المضيئة المشرقة بين كتفيه، فلما رأى الراهب النور خر ساجدا لله تعالى، ثم رفع رأسه فقال: والله هذا النبى محمد أنت المنتظر إلى آخر الزمان، ثم تفرق القوم إلى رحالهم وبقى ميسرة والراهب مع النبى، فقال الراهب: يا سيد أبشر فإن الله عز وجل يوطئ لك رقاب العباد، ويملكك سائر الأمصار والبلاد، وينزل عليك القرآن، وتدين بدينك الأديان والأنام، ودينك عند الله الإسلام وتبعث بالدلائل والمعجزات والبراهين والآيات البينات، وتنكس لك الأصنام، وتمحو بدينك جميع الأديان ويبقى ذكرك إلى آخر الزمان، فياليتنى أكون معك حين تبعث بالرسالة يا سيدى وقرة عينى.

فتى الوادي


صورة قديمة للمدينة المنورة