سيدي إبراهيم بن أدهم

إلى من نحب ونرضى

 

سيدي إبراهيم بن أدهم

إبرهيم بن أدهم، أبو اسحاق البلخى، ولد بمكة وطافت به أمه على الخلق، وسألت الدعاء له أن يكون صالحا، فاستجيب لها، وترك الامارة وما كان فيه.

ذات يوم خرج متصيدا، ثعلبا أو أرنبا، هتف به هاتف (والله ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت) فنزل عن دابته، وصادف راعيا، فأخذ جبته وكانت من صوف، فلبسها وأعطاه ثيابه وقماشه وفرسه، ثم دخل مكة ثم الشام لطلب الحلال، وكان يأكل من عمل يده، صحب بمكة سفيان الثورى والفضيل بن عياض، وتوفى رضى الله عنه بالجزيرة في الغزو، وحُمل إلى صور -مدينة بساحل الشام أو ببلاد الروم على ساحل البحر- فدفن بها سنة إحدى وستين ومائة، ومناقبه جمة أفردها ابن الحلبى بالتأليف.

واختلف -ليلة أن مات- إلى الخلاء نيفا وعشرين مرة، في كل مرة يجدد الوضوء للصلاة، فلما أحس بالموت قال: أوتروا لى قوسى فقبض عليه، فقبضت روحه والقوس في يده.

ومن كلامه البديع

الفقر مخزون في السماء، يعدل الشهادة عند الله، لا يعطيه إلا لمن أحبه.

على القلب ثلاثة أغطية: الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم﴾.

قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تكثر الهم والجزع.

وقال: وجدت يوما راحة، فطابت نفسى لحسن صنع الله بى، فقلت: اللهم إن كنت أعطيت أحدا من المحبين لك ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك فأعطنى كذلك فقد أضر بى القلق، فرأيت رب العزة في المنام، فأوقفنى بين يديه، وقال لى يا إبراهيم أما استحيت منى تسألنى أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائى؟ وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه؟ أم هل يستريح المحب إلى غير من اشتاق إليه؟ فقلت: يا رب تهت في حبك، فلم أدر ما أقول.

ويقول إبراهيم بن بشار خادمه: كنت ذات ليلة معه وليس معنا شئ نفطر عليه ولا لنا حيلة، فرآنى مغموما، فقال: يا ابن بشار لقد أنعم الله تعالى على الفقراء والمساكين من النعم والراحة دنيا وأخرى، بأن لا يسألهم يوم القيامة عن حج ولا زكاة ولا صلة رحم ولا مواساة، وإنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين، أغنياء في الدنيا، فقراء في الآخرة، أعزة في الدنيا، أذلة يوم القيامة، لا تغتم فرزق الله مضمون سيأتيك، نحن والله الملوك والأغنياء، قد تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالى على أى حال أصبحنا أو أمسينا إذا أطعنا الله، ثم قام إلى الصلاة، وقمت إلى صلاتى، فما لبثنا غير ساعة، وإذا نحن برجل قد جاء بثمانية أغنية وتمر كثير فوضعه بين أيدينا وقال: كلوا رحمكم الله، فسلم إبراهيم من صلاته وقال: كل يا مغموم، فدخل سائل وقال: أطعمونى شيئا فأطعمه ثلاثة أرغفة مع تمر كثير، وأعطانى ثلاثة، وأكل رغيفين وقال: المواساة من أخلاق المؤمنين.

وقال إبراهيم لشقيق: علام أصلتم أصولكم؟

فقال: إذا رزقنا أكلنا وإذا منعنا صبرنا.

فقال إبراهيم: هكذا كلاب بلخ إذا رزقت أكلت وإذا منعت صبرت.

إنا أصلنا أصولنا على إنا إذا رزقنا آثرنا وإذا منعنا حمدنا وشكرنا.

فقام شقيق وقعد بين يديه وقال: أنت أستاذنا.

وحصد إبراهيم في المزارع عشرين دينارا ودخل إلى أذنة، ومعه صاحب له فأراد أن يحلق ويحتجم، فجاء إلى حجام، فحقره الحجام وصاحبه، وقال: ما في الدنيا أحد أبغض إلى من هؤلاء أما وجدوا غيرى؟ فقضى شغل غيرهما، وأعرض عنهما ثم قال: أى شئ تريدان؟ فقال إبراهيم: أحتجم واحلق، ففعل به، وأما صاحبه فقال له: لا أفعل ذلك لتهاونه بهما، ثم أعطاه ابرهيم الذى كان معه، فقال له صاحبه: كيف ذاك؟ فقال: اسكت؟ لئلا يحتقر فقيرا بعده.

وروى انه كان يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغير ذلك، وينفق على من في صحبته من الفقراء، وكان يعمل نهاره، ويجتمعون ليلا إلى موضع، وهم صيام، وكان إبراهيم يبطئ في رجوعه من عمله، فقالوا ليلة: هلم نسبقه حتى لا يبطئ في رجوعه من عمله؟ ففعلوا وناموا، فجاء إبراهيم، فظن انهم لم يجدوا طعاما، فأصلحه لهم، فانتبهوا وقد وضع شيبته في النار، وينفخ بها، فقالوا له في ذلك فقال: ظننت إنكم نمتم جوعى لأجل العدم، فأصلحت لكم ذلك، فقال بعضهم لبعض: انظروا ما الذى عملنا، وما الذى يعاملنا به.

وقال سهل بن إبراهيم: صحبته، فمرضت، فأنفق على نفقته، فاشتهيت شهوة، فباع حماره وأنفق على، فلما تماثلت قلت أين الحمار؟ قال: بعناه، فقلت: ماذا أركب؟ فقال: يا أخى على عنقى، فحملنى ثلاثة منازل.

وقال: أتيت ليلة بعض المساجد لأبيت فيه، وكانت ليلة باردة، فلم أمكن، وجررت برجلى إلى مزبلة، فرأيت أتون حمام، ووقادا يوقد، فسلمت عليه، فلم يرد السلام حتى فرغ من عمله، وكان يلتفت يمينا شمالا، فقلت: يا هذا لم لا ترد على السلام في وقته؟ فقال: كنت مستأجرا فخفت أن اشغل معك، فأقصر في عملى فآثم، والتفاتى خوف الموت، لا أدرى من أين يأتينى، قلت: فبكم تعمل كل يوم؟ قال: بدرهم ودانق، فأنفق الدانق على نفسى والدرهم على أولاد أخ لى في الله مات منذ عشرين سنة، قلت: فهل سألت الله تعالى حاجة قط؟ قال: نعم سألته في حاجة منذ عشرين سنة وما قضيت بعد، قلت: ما هى؟ قال: أن يرينى إبراهيم بن أدهم، فأموت، فقلت والله ما رضى بى أن آتيك إلا سحبا على وجهى أنا هو، فعانقنى ووضع رأسه في حجرى ثم قال: إلهى قضيت حاجتى فاقبضنى إليك، ومات من ساعته.

وقال شقيق: كنا عنده يوما، إذ مر به رجل، فقال: أليس هذا فلانا؟ فقلنا: نعم فقال الرجل: أدركه وقل له: لم لم تسلم؟ فقال له: أن امرأتى وضعت، وليس عندى شئ، فخرجت شبه المجنون فقال: انا لله غفلنا عن صاحبنا، ثم استقرض له دينارين، وأمر أن يشترى له بدينار ما يصلح، ويدفع إليه الآخر، فدفع ذلك إلى زوجته، فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم، ففرح فرحا لم يفرح مثله قط.

وركب مرة البحر، فقال عليهم، فلف رأسه في عباءة ونام، فقيل له: ما ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال: ليس هذا شدة، الشدة الحاجة إلى الناس، ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك، فصار البحر كأنه قدح زيت، وقال إبراهيم: مررت ببعض بلاد الشام فإذا حجر مكتوب عليه:

كل حـى وإن بـقــى        فمن العين يستـقـــى

فاعمل اليوم واجتـهــد       واحذر الموت يا شقــى

فقعدت زمانا أقرأه وأبكى وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:

للقمة بجريش الملح آكلهـا      ألذ من تمرة تحشى بزنبور

ومن أصحابه شقيق بن إبراهيم البلخى، أبو على، من كبار مشايخ خراسان، حدث عن أبى حنيفة، وكان أستاذ حاتم الأصم، مات شهيدا في غزوة كولان، سنة أربع وتسعين ومائة، حكاه ابن عساكر، وجزم ابن الجوزى في المنتظم بأنه مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وأخبر عن نفسه في تلك الغزوة أنه رأى نفسه في ذلك اليوم كيوم الزفاف، ونام بين الصفين، حتى سمع غطيطه، قيل: كان سبب زهده أنه رأى مملوكا يلعب ويمرح في زمن قحط، فعاتبه، فقال: لمولاى قرية يدخل له منها ما يحتاج إليه فانتبه شقيق، فقال: هذا مولاه مخلوق، ومولاى أغنى الأغنياء فترك ما في بيته، وتخلى للعبادة.

ومن كلامه رضى الله عنه:

من شكا مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله.

التوكل طمأنينة القلب لموعود الله.

إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت والبس ما وجدت وارض بما قضى الله عليك.

ليس شئ أحب إلى من الضيف لأن رزقه ومؤنته على الله وأجره لى.

إن أردت أن تعرف الرجل فانظر إلى ما وعده الله ووعده الناس بأيهما يكون قلبه أوثق.

تعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه، ومنعه، وكلامه.

وسئل رضى الله عنه: ما علامة التوبة؟ فقال: إدمان البكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف المقلق من الوقوع فيها، وهجران اخوان السوء، وملازمة أهل الخير.

وقيل له: ما علامة المطرود؟ فقال: إذا رأيته منع الطاعة واستوحش منها قلبه، وحلاله المعصية واستأنس بها، ورغب في الدنيا وزهد في الآخرة، وشغله بطنه وفرجه، ولم يبال من أين أخذ الدنيا، فاعلم أنه عند الله مباعد، لم يرضه لخدمته.

وقد إلتقى شقيق وإبراهيم بن أدهم بمكة، فقال له إبرهيم: ما بدء حالك الذى بلغك هذا؟ قال: سرت في بعض الفلوات فرأيت طيرا مكسور الجناحين في فلاة من الأرض، فقلت: أنظر من أين يرزق هذا، فإذا أنا بطير قد أقبل، وفى فيه جرادة، فوضعها في منقاره، فاعتبرت وتركت الكسب وأقبلت على العبادة.

فقـال له إبراهيم بن أدهم: يا شقيق ولم لا تكون أنت الذى أطعم المكسور حتى تكون أفضل منه، أما سمعت عن النبى صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار، فأخذ شقيق يده يقبلها وقال له: أنت أستاذنا.

إلى من نحب ونرضى

مولانا الشيخ إبراهيم

الله أكبر ما تزينت السمــا          والأرض فوق جبينها الأفراح

أنعم سويعات الوصال ويالها        أيام سعد ليلهن صبــ/ـاح

شيخنا الكريم..

أتينا إلى جنابكم من كل فج يحـدونا الأمل في أن نشـهد منافع لنا ونلقى الرفد وهو سخاء، جئنا متعرضين لهذه النفحات التى قال فيها جدكم المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا إن لكم في أيام دهركم لنفـحات ألا فتعـرضوا لها فلعله أن تصيب أحدكم نفيحة فلا يشقـى بعدها أبدا) أتينا مقبلين على موائدكم، موائد الخير كما قال سيدى فخر الدين رضى الله عنه:

إذا فتحت أبواب خير فأقبلوا       موائد أهل الله خير المـوائد

شيخنا الكريم..

إذا كانت مواسم الفضل ممدودة وأعياد السرور والخير مورودة، وإذا كانت العادة قد جرت بأن تُذكر المناقب في مثل هذه المناسبات فإن مناقبكم عزت من أن تُعد أو تُحصى فأنتم من هؤلاء الذين اصطفاهم الله تبارك وتعالى، وأيدكم نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لتكونوا خدما لدينه، ومنحة من الأقطـاب لسيدى فخر الدين الإمام العظيم ولاسيما أبى العينين لخدمة طريقته فليس من وراء ذلك مرمى لرامى.

وصدق قول الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

من كمال العطاء من فيض وهب        أيها الناس جاءكم إبراهيـــم

فاسألوه النجاة من يومحشـــر        يوم لا يسأل الحميم حميـــم

أودعالسر والسرائـــر غيب        كاظم علمه ونعم الكظيــــم

من رآنى لديهفاز بســــرى        فى جنى جنتيه سر كتيــــم

فىجناحيهرحمتى ولديــــه         عوض الوالدين يلقى اللطيــم

فى يمينيه قوتى ومراســـى         بلسانيه عالم وعليــــــم

ورياح اللقاح لو ذات يـــوم         عدمت حبه فريح عقيــــم

فلقد قمتم -ومازلتم- على أداء مسئوليتكم تجاه هذه الطريقة خير قيام، نفذتم ما أوصى به الشيخ وما ترتضيه مهمتكم في الحفاظ على هذه الطريقة والعمل على انتشارها وازدهارها في شتى أنحاء العالم، وكنتم -ومازلتم- في مجال الهداية ونشر الدين الإسلامى الحنيف ومبادئه السمحة وإرساء دعائم التصوف حتى يواكب العولمة الحديثة ومتطلبات العصر، من أجل ذلك تواصلون الليل بالنهار، تجوبون أقطار العالم وتجتمعون بأبنائكم ومريديكم تحثونهم على جمع الشمل ومكارم الأخلاق والسير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته، وتوضحون لهم مبادئ التصوف ودور الطرق الصوفية عامة، ذلك الدور الذى كاد يندثر في معظم دول العالم ولاسيما العالم العربى والإسلامى، توضحون لهم أن التصوف ماهو إلا لب الدين، وهاهو دوركم يلقى استحسانا واستجابة من قادة الأمم ورؤساء الدول والقائمين على أمور الدين في دنيا الله الواسعة فانتشرت طريقتكم وازدهرت وتعددت دوركم وزواياكم في بلاد لم تر الله خالقا فصارت بفضل الله من أهل التوحيد.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعم الخير على أيديكـم وعلى أيدى هذه الأسرة المباركة، ويصدق قول مـولانا الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

وصرحى باسم الله بوأت ركنه        وآية إبراهيم رفع القواعــد

يطهره للطائفين وإنـــــه       لقبلة قصادى وبيت العقائــد

فذانك إبراهيم بيتـى ومعبدى         ومعدن فضلى وابن أم المعابد

فتحـية لكم ورضى الـله عنكم وعن آل بيـتكم وأرضانا بكم أجمعين.

محمد سيد