العراق والحجاج
حكى عن عبد الملك بن عمير أنه قال: لما بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن
مروان اضطراب أهل العراق جمع أهل بيته وأولى النجدة من جنده، وقال: أيها الناس، إن
العراق كدر ماؤها، وكثر غوغاؤها، واملولح عذبها، وعظم خطبها، وظهر ضرامها، وعسر
إخماد نيرانها، فهل من ممهد لهم بسيف قاطع، وذهن جامع، وقلب ذكى، وأنف حمى، فيخمد
نيرانها، ويردع غيلانها، وينصف مظلومها، ويداوى الجرح حتى يندمل فتصفو البلاد،
وتأمن العباد.
فسكت القوم، ولم يتكلم أحد، فقام الحجاج وقال يا أمير المؤمنين أنا
للعراق، قال: ومن أنت لله أبوك؟ قال: أنا الليث الضمضام والهزبر الهشام أنا الحجاج
بن يوسف، قال: ومن أين؟ قال: من ثقيف كهوف الضيوف ومستعمل السيوف، قال: اجلس لا أم
لك، فلست هناك، ثم قال: ما لى أرى الرؤوس مطرقة والألسن معتقلة، فلم يجبه أحد، فقام
إليه الحجاج وقال: أنا مجندل الفساق، ومطفئ نار النفاق، قال: ومن أنت؟ قال: أنا
قاصم الظلمة، ومعدن الحكمة الحجاج بن يوسف معدن العفو والعقوبة، آفة الكفر والريبة،
قال إليك عنى، فلست هناك، ثم قال: من للعراق؟ فسكت القوم، وقام الحجاج وقال: أنا
للعراق، فقال: إذاً أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وإن لكل شئ يا ابن يوسف آية
وعلامة، فما آيتك وما علامتك؟ قال: العقوبة والعفو، والاقتدار والبسط، والازورار
والإدناء، والإبعاد والجفاء، والبر والتأهب، والحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير
هيوب، فمن جادلنى قطعته، ومن نازعنى قصمته، ومن خالفنى نزعته، ومن دنا منى أكرمته،
ومن طلب الأمان أعطيته، ومن سـارع إلى الطاعة بجلته، فهذه آيتى وعلامتى، وما عليك
يا أمير المؤمنين أن تبلونى، فإن كنت للأعناق قطاعا، وللأموال جماعا، وللأرواح
نزاعا، ولك فى الأشياء نفاعا، وإلا فليستبدل بى أمير المؤمنين، فإن الـناس كثير،
ولكن من يقوم بهذا الأمر قليل، فقال عبد الملك: أنت لها، فما الذى تحتاج إليه؟ قال:
قليل من الجند والمال، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال: هيئ له من الجند شهوته
وألزمهم طاعته، وحذرهم مخالفته، ثم دعا الخازن، فأمره بمثل ذلك، فخرج الحجاج قاصدا
نحو العراق.
قال عبد الملك بن عمير: فبينما نحن فى المسجد الجامع بالكوفة إذا
أتانا آت فقال: هذا الحجاج قدم أميرا على العراق، فتطاولت الأعناق نحوه وأفرجوا له
عن صحن المسجد، فإذا نحن به يمشى وعليه عمامة حمراء متلثما بها، ثم صعد المنبر،
فلم يتكلم كلمة واحدة، ولا نطق بحرف حتى غص المسجد بأهله، وأهل الكوفة يومئذ ذوو
حالة حسنة وهيئة جميلة، فكان الواحد منهم يدخل المسجد ومعه العشرون والثلاثون من
أهل بيته ومواليه وأتباعه عليهم الخز والديباج، وكان فى المسجد يومئذ عمير بن صابئ
التميمى، فلما رأى الحجاج على المنبر قال لصاحب له: أسبه لكم؟ قال: اكفف حتى نسمع
ما يقول، فأبى ابن صابئ وقال: لعن الله بنى أمية حيث يولون ويستعملون مثل هذا على
العراق، وضيع الله العراق حيث يكون هذا أميرها، فوالله لو دام هذا أميرا كما هو ما
كان بشئ، والحجاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلما رأى المسجد قد غص بأهله قال: هل
اجتمعتم؟ فلم يرد عليه أحد شيئا، فقال: إنى لا أعرف قدر اجتماعكم، فهل اجتمعتم؟ فقال
رجل من القوم: قد اجتمعنا أصلح الله الأمير، فكشف عن لثامه، ونهض قائما فكان أول
شئ نطق به أن قال: والله إنى لأرى رؤوسا أينعت وقد حان قطافها وإنى لصاحبها، وإنى
لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى، والله يا أهل العراق إن أمير المؤمنين نثر
كنانة بين يديه فعجم عيدانها، فوجدنى أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فرماكم بى لأنكم
طالما أثرتم الفتنة واضطجعتم فى مراقد الضلال، والله لأنكلن بكم فى البلاد،
ولأجعلنكم مثلا فى كل واد، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، وإنى يا أهل العراق لا أعد
إلا وفيت، ولا أعزم إلا أمضيت، فإياى وهذه الزرافات والجماعات، وقال: وكان ويكون،
يا أهل العراق إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان،
فكفرت بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها، فاستوثقوا واستقيموا، واعملوا ولا
تميلوا، وتابعوا وبايعوا واجتمعوا واستمعوا، فليس منى الإهدار والإكثار إنما هو
هذا السيف، ثم لا ينسلخ الشتاء من الصيف حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم
له أودكم ثم إنى وجدت الصدق مع البر ووجدت البر فى الجنة، ووجدت الكذب مع الفجور،
ووجدت الفجور فى النار، وقد وجهنى أمير المؤمنين إليكم، وأمرنى أن أنفق فيكم وأوجهكم
لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبى صفرة، وإنى أقسم بالله لا أجد رجلا يتخلف بعد أخذ
عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه، يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم
الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين
سلام عليكم، فلم يرد أحد شيئا، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال:
أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون شيئا عليه؟ هذا أدبكم الذى تأدبتم به، أما
والله لأؤدبنكم أدبا غير هذا الأدب، اقرأ يا غلام
فقرأ حتي بلغ قوله: سلام عليكم فلم يبق أحد إلاقال: وعلى أمير المؤمنين السلام، أى
كلام وأى سلام ومازال القتال مستمرا.