قصص
دخلت امرأة على هارون الرشيد وعنـده جماعة من وجوه أصحابه، فقـالت: يا
أمير المؤمنين: أقر الله عينك وفرحك بما آتاك، وأتم سعدك لقد حكـمت فقسـطت، فقال
لها: من تكـونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك ممن قتلت رجالهم، وأخذت أموالهم،
وسلبت نوالهم، فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدره، وأما المال
فمردود إليك، ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه.
فقال: أتدرون ما قالت هذه المرأة، فقالوا: ما نراها قالت إلا خيرا،
قال: ما أظنكم فهمتم ذلك، أما قولـها أقر الله عينك، أى أسكنها عن الحركة، وإذا
سكنت العين عن الحركة عميت، وأما قولها: وفرحك بما آتاك، فأخذته من قوله تعالى ﴿حتى
إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة﴾ وأما قولها: وأتم الله سعدك، فأخذته من قول
الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقـصـه ترقب زوالا إذا قيل، تم
وأما قولها لقد حكمت فقسطت، فأخذته من قوله تعالى ﴿وأما القاسطون
فكانوا لجهنم حطب﴾ فتعجبوا من ذلك.
*********
رجل من أهل الجنة
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته يوماً فقال: (يطلع الآن
عليكم رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه
بيده الشمال.
فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فـطلع ذلك الرجل
مثل المرة الأولى، فلـما كان اليوم الثـالث قال النبي مثل مقـالته أيضـاً فطلع ذلك
الرجل على مثل حالته الأولى، فلما قام النبي صلوات الله عليه، تبع عـبدالله بن عمر
الرجل، فقال: (إني أغضبت أبي فأقسمت ألا أدخل عليـه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني
إليك حتى تمضي فعلت)، فقال نعم، فبات عبدالله معه الليالي الثلاث فلم يره يقوم من
الليل شـيئاً غير أنه إذا تقلب في مكانه وفراشـه ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة
الفجر.
قال عبدالله: (غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي
الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: (يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة،
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -ثلاث مرات- يطلع عليكم الآن رجل من
أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن أوي إليك فانظر ما عملك فأقتدي بك، فلم
أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قاله رسول الله).
فقال: (ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحدمن المسلمين غشاً
ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه).
فقال عبـدالله: هذه التي بلغت بك.
*********
قال المزنى: دخلت على الشافعى فى مرضه الذى مات فيه فقلت له: يا أبا
عبد الله، كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخوانى مفارقا،
ولسوء عملى ملاقيا، وعلى الله واردا، ما أدرى روحى تصير إلى جنة فأهنيها، أو إلى
النار فأعزيه.
ثم أنشأ بعدها يقول :
تأوه قلبى والفؤاد كئـيــــب وأرق نومى فالسهاد عجيـــب
فمن مبلغ عنى الحسين رسالــة وإن كرهتها أنفسٌ وقـلـــوب
ذبيحٌ بلا جرم كأن قميصــــه بيغٌ بماء الأرجوان خضيـــب
فللسيف إعوالٌ وللرمح رنـــة وللخيل من بعد الصهيل نحيـب
تزلزلت الدنيا لآل محمـــــد وكادت لهم من الجبـال تـذوب
وغارت نجومٌ واقشعرت كواكـب وهتك أستارٌ وشق جــيـوب
يصلى على المبعوث من آل هاشم ويغزى بنوره إن ذا لعجـيـب
لئن كان ذنبى حب آل مـحـمـد فذلك ذنبٌ لست عنـه أتـوب
هم شفعائى يوم حشرى وموقفـى إذا ما بدت للناظرين خطـوب
حديث سنمَّار الرومي
وقال بعـض العرب، في قتل بعضِ الملوك لِسـنمَّار الرومي؛ فإنه
لما علا الخَوَرْنَق ورأى بُنْياناً لم يرَ مثله، ورأى في ذلك المستشرف، وخاف إن
هو استبقاه أن يموت فيبني مثلَ ذلك البنيانَ لرجُلٍ آخرَ من الملوك، رمَى به من
فوق القصر، فقال في ذلك الكلبيّ في شيءٍ كان بـينَه وبين بعضِ الملوك:
جَزَاني جَـزَاهُ الـلّـهُ شَـرَّ جـزائه جَزَاءَ سِنِمَّـارٍ ومـا كـان ذَا ذنـب
سِوَى رَصِّه البنيانَ سَبـعـين حِـجَّةً
�يُعَلَّى عليه بالقرَامِـيدِ والـسَّـكْـبِ
فلما رأى البُـنْـيانَ تـمَّ سُـحُـوقَـه وآضَ كمِثْلِ الطَّوْدِ ذِي الباذِخ الصَّعْبِ
وظنَّ سِـنِـمّـارٌ بـه كُـلَّ حـبـوة وفازَ لَـدَيْهِ بـالـمـودَّةِ والـقُـرب
قال اقذِفُوا بالعِلْجِ مِنْ رأسِ شـاهــقٍ فذاكَ لعَمْرَ اللّهِ مِنْ أعظَمِ الخَـطْـب
وجاء المسلمونَ، يروي خَلَفٌ عن سلف، وتابعٌ عن سابِق، وآخَرُ عنْ
أوّل، أنَّهمْ لم يختلِفُوا في عيبِ قول زِياد: لآخُذَنَّ الوَلِيَّ بالوَلِيِّ،
والسَّمِي بالسَّمِيِّ، والجارَ بالجارِ، ولم يختلفُوا في لَعْن شاعِرهم حيث يقول:
إذا أُخِذَ البَريءُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ تجَنَّبَ ما يُحاذِرُه السقيـمُ
نفحات وعبر
قال الإمام فخر الدين الرازى رحمة الله تعالى عليه: اعلم أن الفصاحة
خلوص الكلام من التعقيد، وأصلها من قولهم أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرغوة، وأكثر
البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة، بل يستعملونها استعمال الشيئين
المترادفين على معنى واحد فى تسوية الحكم بينهما، ويزعم بعضهم أن البلاغة فى
المعانى والفصاحة فى الألفاظ، ويستدل بقولهم معنى بليغ ولفظ فصيح.
*********
قال يحيى بن خالد: ما رأيت رجلا قط إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان فصيحا
عظم فى صدرى، وإن قصر سقط من عينى وقد اختلف الناس فى الفصاحة، فمنهم من قال: إنـها
راجعة إلى الألفاظ دون المعانى، ومنهم من قال: إنها لا تخص الألفاظ وحدها واحتج من
خص الفصاحة بالألفاظ بأن قال: نرى النـاس يقولون هذا لـفظ فصيح وهذه الألفاظ فصيحة،
ولا نرى قائلا يقول: هذا معنى فصيح، فدل على أن الفصاحة من صفات الألفاظ دون
المعانى.
وإن قلنا إنها تشمل اللفظ والمـعنى لزم من ذلك تسـمية المعـنى
بالفصـيح، وذلك غير مألـوف فى كلام الناس، والذى أراه فـى ذلك أن الفصيح هو
اللفظ الحسن المألوف فى الاستعـمال بشرط أن يكون معـناه المـفهوم مـنه
صحيحا حسنا، ومن المسـتحسن فى الألفـاظ تـباعد مخارج الحروف، فإذا كانت
بعـيدة المخـارج جاءت الحـروف متمكنـة فى مواضعها غير قلقة ولا مكدودة،
والمعيـب من ذلك كقـول القـائل:
لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما كنا وكنت ولكـن ذاك لـم يكــن
�وكقول بعضهم أيضا:
وقبر حرب بمكان قـفــــر وليس قرب قبر حــــرب قبر
�قيل:
إن هذا البيـت لا يمكن إنشـاده فى الغالب عشر مرات متوالية إلا ويغلط المنشد
فيه لأن القرب فى المخارج يحدث ثقلا فى النطق به، وقيل: من عرف بفصاحة اللسان
لحظته العيون بالوقار، وبالفصاحة والبيان استولى يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام
على مصر وملك زمام الأمور وأطلعه ملكها على الخفى من أمره والمستور، وقال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ولم يبق إلا صورة اللحـم والدم
*********
سمع النبى صلى الله عليه وسلم من عمه العباس كلاما فصيحا فقال: بارك
الله لك يا عم فى جمالك. أى فصاحتك. وعرضت على المتوكل جارية شاعرة، فقال أبو
العيناء يستجيزها أحمد الله كثيرا، فقالت: حيث أنشأك ضريرا، فقال: يا أمير المؤمنين
قد أحسنت فى إساءتها فاشترها.
*********
وقال فيلسوف: كما أن الآنية تمتحن بأطيانها، فيعرف صحيحها من مكسورها،
فكذلك الإنسان يعرف حاله من منطقه.
أمثال
وحكم
w�قال
الثعالبى: البليغ من يحول الكلام على حسب الأمالى، ويخيط الألفاظ على قدر المعانى،
والكلام البليغ ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.
w�وقال
الإمام فخر الدين الرازى رحمة الله تعالى عليه فى حد البلاغة: إنها بلوغ الرجل
بعبارته كنه ما فى قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل، والتطويل الممل، ولهذه
الأصول شعب وفصول لا يحتمل كشفها هذا المجموع ويحصل الغرض بهذا القدر وبالله
التوفيق إلى أقوم طريق.
w�مر
رجل بأبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، ومعه ثوب، فقال له أبو بكر رضى الله عنه:
أتبيعه؟ فقال: لا، رحمك الله، فقال أبو بكر: لو تستقيمون لقومت ألسنتكم، هلا قلت لا
ورحمك الله.
w�حكى
أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن شئ، فقال: لا، وأيد الله أمير المؤمنين، فقال
المأمون: ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعه. وكان الصاحب يقول: هذه الواو أحسن من
واوات الأصداغ. ويقال: اللسان سبع صغير الجرم عظيم الجرم.
w�قال
الأحنف: سمعت كلام أبى بكر حتى مضى، وكلام عمر حتى مضى، وكلام عثمان حتى مضى، وكلام
على حتى مضى رضى الله تعالى عنهم، ولا والله ما رأيت فيهم أبلغ من عائشة، وقال
معاوية رضى الله تعالى عنه: ما رأيت أبلغ من عائشة رضى الله تعالى عنها، ما أغلقت
بابا فأرادت فتحه إلا فتحته، ولا فتحت بابا فأرادت إغلاقه إلا أغلقته.
w�من
غريب الكنايات الواردة على سبيل الرمز، وهو من الذكاء والفصاحة ما حكى أن رجلا كان
أسيرا فى بنى بكر بن وائل وعزموه على غزو قومه، فسألهم فى رسول يرسله إلى قومه،
فقالوا: لا ترسله إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم وتحذرهم.
فجاؤوا بعبد أسود، فقال له: أتعقل ما أقوله لك، قال: نعم إنى لعاقل،
فأشار بيده إلى الليل، فقال: ما هذا؟ قال: الليل. قال: ما أراك إلا عاقلا، ثم ملأ
كفيه من الرمل وقال: كم هذا؟ قال: لا أدرى وإنه لكثير، فقال: أيما أكثر النجوم أم
النيران؟ قال: كل كثير، فقال: أبلغ قومى التحية، وقل لهم يكرموا فلانا يعنى أسيرا
كان فى أيديهم من بكر بن وائل، فإن قومه لى مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد دنا وشكت
النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتى الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملى الأصهب
بأمارة ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبرى أخى الحرث، فلما أدى العبد الرسالة
إليهم قالوا: لقد جن الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب، ثم دعوا
بأخيه الحرث فقصوا عليه القصة، فقال: قد أنذركم، أما قوله: قد دنا العرفج، يريد أن
الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح وأما قوله: شكت النساء أى أخذت الشكاء للسفر،
وأما قوله: أعـروا ناقتى الحمراء أى ارتحلوا عن الدهناء، واركبوا الجمل الأصهب، أى
الجبل، وأما قوله: أكلت معكم حيسا، أى أن أخلاطا من الناس قد عزموا على غزوكم لأن
الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا أمره وعرفوا لحن الكلام وعملوا به فنجوا.
|