الـقـواطـع

بالحقائق ناطقين

من نحب ونرضى

 

الـقـواطـع

النفس الملهمة

 من بعدها نجد الفجور لمبعد       نجد التقى بملائك الأسماء

استكمالا لحديثنا السابق عن القواطع نتحدث فى هذا العدد عن النفس (الملهمة) وهذه النفس لها من الصفات الحميدة الكثير، كالسخاء والتواضع والقناعة والصبر، وتحمُل الأذى والعفو عن الناس وقبول أعذارهم، وسميت (ملهمة) لأن الله ألهمها الفجور والتقوى، ويقول فيها الحق سبحانه {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقوها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} وهذه النفس فى هذا المقام تسمع بغير آلة لمة الملَك ولمة الشيطان، لأنها قبل هذا الموطن لا تسمع، فكانت قريبة من مقام الحيوانات، ولأنها ملهمة الفجور والتقوى فكان هذا المقام خطر لأنك لا تستطيع أن تميز بين الجلال والجمال ولا بين ما ألقاه الملَك وما ألقاه الشيطان، ويُخشى عليك لأنك لم تتخلص منها، فإن غفل الذاكر عن نفسه يهوى به إلى سجين أعاذنا الله منها، فيرجع إلى المقام الأول وهو النفس (الأمارة) وربما يفسد اعتقاده ويترك الطاعات ويرتكب المعاصى وتظهر نار الطبيعة على قلبه فتحرق ما كان فى قلبه من نور الإيمان، فيصير شيطانا ضالا لاحت له خيالات شيطانية فيظن أنها تجليات ربانية بعد أن كانت بشريته قد رقت وروحانيته قد قويت، وما بقى إلا القليل حتى يدخل حضرة الملك الجليل، فعليك بالاتباع وإن سولت لك نفسك أنك أرقى من غيرك فلابد من ملازمة آداب الطريق وعدم الخروج عليه بأى حال من الأحوال، وهذب نفسك واحذر من التعالى على غيرك حتى تصل إلى المقام الرابع الذى يسمى فيه بالنفس (المطمئنة) لأنه يحصل لك قبل ذلك تلوين، فالاطمئنان معناه التمكن من كل صفة ذميمة فلا تلتفت إلى ما لاح لك من بوارق الحضرات العالية لأنها ستكون سببا لعودتك إلى المقام الأول، فإنها تمنعك من التقرب إلى حضرة الأحدية.

واعلم أن هذا المقام جامع للخير والشر، فإن غلب الخير على الشر ترقيت إلى المقامات العالية، وإن غلب الشر على الخير نقلتك إلى سجين، وعلامة غلبة الخير على الشر أن ترى باطنك معمورا بالايمان وعقيدتك سليمة وقوية ليس فيها خلل ولا شك فى أى أمر من أمور إيمانك، وظاهرك معمورا بالشريعة وتتصف بكل خلق حميد، وتسعى لخدمة أحبابك، وغير مقصر فى أذكارك، وكل هذه الصفات الخارجة أكبر دليل على سلامتك من الافتتان وتكون على يقين بأن كل ما يحدث من أمور على وفق إرادة الله تعالى، ولذلك تسلم من هذا الموطن وقال الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

ولا تك مهموما فما الله غافلا    ولا تك عبدا ذا قضاء الفوائت

وأما إذا تغلب الشر على الخير فى هذا المقام فلا يكن ظاهرك معمورا بالشريعة، فتترك الطاعات وترتكب المخالفات وتكون كثير المجادلة والمخالفة لكل رأى يعرض عليك، وكل ذلك راجع لأنك حينما رأيت وتيقنت من أنوار الإيمان ظننت أن أفعالك كلها جارية على وفق إرادة الله تعالى، فاحتجبت بقوة الإيمان وبنوره عن أسرار الشريعة، فأعطيت لنفسك الاطمئنان وآمنت مكر الله لما تراه من شدة التعلق بهذا النور.

فإياك أن تترك البدايات فإذا تركت بدايات الشريعة من الصلاة والصوم والزكاة والأذكار واعتمدت على قوة إيمانك فيفسد هذا الإيمان، لأنك لم تصن البدايات فلا تكن أهلا لأن تصون النهايات، لأن الأواخر أمرها عزيز، واعلم أنك مازلت فى بداية الصعود لنيل المطلوب وفى هذه الحالة يتغلب الشر على الخير فتخسر الدنيا والأخرة.

عصام مقبول / محمد رشاد

بالحقائق ناطقين

بحق ضيفنا إلا أطلقتنى

كان خادم سيدى بشر الحافى من خيار عباد الله الصالحين، قال: كنت يوما جالسا عند الشيخ معروف، فجاء إلى الشيخ معروف رجل وقال له: رأيت أمس عجبا، فقد اشتهى أهلى سمكة فاشتريتها، فبينما أنا أطلب من يحملها إذا بصبى ملتف بعباءة ومعه طبق، فقال: أحملها لك؟ قلت: نعم، فحملها، فمررنا بمسجد يؤذن فيه لصلاة الظهر، فقال: يا عم هل لك فى الصلاة؟ قلت: نعم، فطرحها ودخل المسجد ليصلى، فلما أقيمت الصلاة قلت: هذا صبى توكل على الله وترك طبقه، ألا أتوكل على الله فى سمكة؟! فتركتها وصليت، وخرجت فإذا هى بحالها؛ فحملها الصبى ثم عاد إلى ما كان عليه من الذكر إلى أن وصلنا المنزل، فأخبرت أهلى خبره، فقالوا له: كل معنا، فقال: إنى صائم، فقلت: تفطر عندنا، فقال: نعم، فأين طريق المسجد؟ فدللته عليه، فلم يزل راكعا ساجدا إلى العصر، فلما صلى العصر جعل رأسه بين ركبتيه إلى الغروب، فصلى المغرب، فقلت له: هل لك فى الفطور؟ قال: على العادة، قلت: وما هى؟ قال: بعد العشاء، فلما كان بعدها أخذته إلى البيت، وكانت لى ابنة مقعدة فى البيت منذ زمن، فبينما نحن فى جوف الليل، وإذا بمن يدق باب البيت، فقلت: من هذا؟ قالت: ابنتك فبادرناها، فإذا هى تمشى، فقلنا: ماذا حدث؟ قالت: لا أدرى، غير أنى سهرت الليلة، فألقى فى نفسى أن أسأل الله بحق ضيفكم، فقلت: إلهى بحق ضيفنا إلا أطلقتنى، فكان ما ترون، فبادرت أطلب الصبى، وإذا الباب مغلق، وهو قد ذهب.

فبكى الشيخ معروف وقال: نعم، منهم كبار وصغار.

هاديه الشلالي

من نحب ونرضى

الوارث

إلى الحبيب ابن الحبيب أبو الحبيب إلى عطاء الله إلى المصطفى من السيد البرهانى إلى صاحب الحمى .. إلى الأب الذى تعجز أى كلمات عن ذكر خصائصه ومعانيه .. إلى الإمام ابن الإمام أبو الإمام .. إلى مولانا الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى رضى الله عنهم أجمعين .. وصدق الله العظيم حيث يقول فى كتابه العزيز {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} لنرى ما فى هذه الآية من الخير الوافر حيث قال عنه الإمام الألوسى أن المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم، وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره.

روى عن الإمام جعفر الصادق والإمام محمد الباقر رضى الله تعالى عنهما أنهما قالا عن هذه الآية: هى لنا خاصة وإيانا عنى، أراد أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب.

وقال صاحب مجمع البيان: هذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الإصطفاء والإجتباء وإيراث علم الأنبياء، وربما يستأنس له بقوله صلى الله عليه وسلم (إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتى لن يفترقا حتى يردا على الحوض) وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولا أوليا ففى بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب، وإذا كانت الإضافة فى {عبادنا} للتشريف واختص العباد بمؤمنى هذه الأمة وكانت {من} للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين.

وعن الإمام جعفر الصادق رضى الله تعالى عنه قال: الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام، والمقتصد العارف بحق الإمام، والسابق هو الإمام.

وعن زياد بن المنذر عن أبى جعفر رضى الله تعالى عنه قال: الظالم لنفسه منا من عمل صالحا وآخر سيئا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات على والحسن والحسين رضى الله تعالى عنهم.

ولو تأملنا سياق هذه الآية الكريمة وجب علينا أن نتوقف عند هذا الاسم الشريف (الوارث) ونتأمل معناه، فيقول الإمام عبد الكريم الجيلى فى كتابه "الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية" عن الاسم الوارث:

اسمه الوارث هو الذى ورث المملكة الوجودية بنسبة الوجود إليه من دونها، فكلما زالت صورة موجود من المظاهر ورثه اسمه الباطن, وقامت تلك الصورة فى ذلك المجلى منسوبة إلى الله بوجودها، وكلما برز موجود من الباطن ورثه اسمه الظاهر, فقامت صورة ذلك الموجود فى المجلى الظاهرى منسوبة وجوديا إليها, فما ثم إلا ظهور يرثه الباطن وبطون يرثه الظاهر، والله هو الوارث الحقيقى، وهذه الصفة هى أحد الصفات التى هى من علامات الولى الكامل, ففى ما قلناه غموض على من ليس من أهله, وهذا الاسم من أسماء الأفعال وصفته (الوراثة) وهى عبارة عن ظهور تحققه بوجود كل موجود، فيرث شيئية كل شئ فلا يبقى لشئ فى شيئية نفسه وجود ولا ملك، بل ورثه الوارث، واعلم أن الوراثة تنقسم قسمين وراثة حقية ووراثة خلقية، فالوراثة الحقية هى عبارة عن تجلى واحد فى حقائق الموجودات حتى ترجع بوجودها إليه فيظهر تعالى أنه عينها فيرثها بذاتها {إن إلى ربك الرجعى} والوراثة الخلقية هى عبارة عن وراثة العارف للإتصاف الإلهى وجدانا وتحقيقا, وهذا عكس الإتصاف الأول, أو هو فى السلوك ثمرته.

ومن هنا يأتى الإقتفاء الفريد النفيس للإمام فخر الدين رضى الله عنه فيقول فى حق مولانا الشيخ إبراهيم رضى الله عنه:

لكن إبراهيم حقا وارث   أو ليس هذا سيد من أسود

أحمد خليل