العد د السابع (اغسطس)

 

رســالة الـتصــوف

الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

صدق الإخاء في الدين


رســالة الـتصــوف

قال تعالى {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه}...

الحديث عن رسالة التصوف وآرائها مُتَشعِّبٌ في الموسوعات والمختصرات في الأزمنة المعاصرة وما يسبقها. فلابد من اختصار بعضه في كلمات موجزة قصيرة.

      رسالة التصوف تحرير إرادة الإنسان من قيود النفس والهوى والنزعات الشيطانية التي تحول بينها وبين التوجُّه إلى ربِّها وخالقها بلا تعثُّرٍ في السير إليه ولا التفات إلى غيره ليستقيم باطن الإنسان على الحقِّ وظاهره على الشرع سلوكاً شخصياً وتعاملاً مع المجتمع وليس إلى ذلك سبيل بغير أخصَّائي خبير بأعداء الإرادة الإنسانية وأسلحة الحرب لإبادتهم والوقاية من كيدهم ومواد التداوي منه بعد إصابتهم، وكل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله .

      ولاختلاف الناس في بواطنهم تنوَّعت الأسلحة وأسباب الوقاية ومضادات الأمراض متمثِّلة في الأسماء الإلهية والأدعية المأثورة والصلوات على رسول الله .

      وعند الخبير أجهزة الكشف والتشخيص ليعطي كل حالة ما يناسبها من أسباب الصحة ووسائل العافية لضمان النصر في جهادها الأكبر لتصل بذلك إلى كمال إنسانيتها ومقامات تكريمها. وقد تميَّزت الطريقة البرهانية الدسوقيَّة الشاذلية بفضل وسع الخبير العارف المحيط بأنواع العلوم والمعارف الإمام فخر الدين السيد محمد عثمان عبده البرهاني بإظهار صبغتها النورانية على السالكين في تصرفاتهم الشخصية وتعاملهم مع الآخرين وقوتها الروحانية التي أودعها الخبير في قلوبهم وزكَّى بها نفوسهم والمحبة التي تقود المسلم وغيرُ المسلم إليهم بلقاء عابر، أو اجتماع في عمل مشترك، أو تبادل في تجارة ولم يجعل لجاذبيتهم وحسن مظهرهم مدخلاً يشقُّ عليهم من عزلةٍ أو بعد عن الناس أو تجرُّد من السعي لكسب العيش والقيام بواجبه لإعفاف النفس والأسرة ولخدمة المجتمع أو الإسهام فيه بقدر الوسع والطاقة.

وما زالت في ظل قائد مسيرتها وقدوة السالكين الخلف المبارك وارث المقام وخصائص الكرام العارف بالله الشيخ إبراهيم تؤدي رسالتها في تحرير الإرادة الإنسانية وتوحيد وجهتها والسير بها إلى الله تعالى دون التفات إلى غيره أو تعلُّقٍ بسواه، تؤلِّف بين القلوب، وتوثِّق روابط المحبة لله تعالى ولرسوله  بين الأرواح، فلا خوف بعد بيعته وفي ظل رايته على السالكين ولا هم يحزنون لجامعيتهم بين الوقوف عند حدود الشريعة وعدم تجاوزها في الأعمال البدنية وبين اقتدائهم بالحقيقة والتزامهم بكافة إرشادات الطريقة في الأعمال القلبية وسعيهم إلى الكمالات والمقامات الإحسانية عملاً بما أوصى به صاحب الطريقة سيدي إبراهيم إذ يقول:

وأوصيتُ اتباعي بأن يتشرَّعوا           ومن بعد هذا يقتدوا بالحقيقةِ

وللقدم الراسخ في الولاية والفضل الواسع والإحاطة بالعلوم في الإمامين الشيخ محمد عثمان عبده وخلفه الشيخ إبراهيم أثره الكبير في نشر الطريقة وارتيادها لآفاقٍ بعيدة وقلوب مظلمة دون وسيلة إعلام مشهودة أو مسموعة بل بهاتف الروح إلى الأرواح ونداء القلب المشرق إلى القلوب. إلى جانب أن الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية أشرقت على العالم وقد تقدَّمت فترة التأثُّر بأنماط السلوك الغربي والثقافة الوافدة والنظريات العقلانية الهادفة إلى بسط النفوذ والتحلل من الأخلاق الكريمة والمُثُل العليا المستقاة من الإسلام وتعاليمه، وبطول الممارسة لتجاوز الحدود الشرعية انقطعت الصلة أو كادت بين ماضي المسلمين وحاضرهم فتوارى الحقُّ وظهر الباطل، وحين تطلَّعوا إلى الجديد ليخلعوا ثوب الذُلِّ ويلتمسوا طريق العافية ويسلكوا سبيل العودة إلى العزة إلى السلوك المسئول عن الوجود الشخصي والربط الاجتماعي ووحدة الصف بعد التفرُّق ولا يتحقق ذلك إلا بالدخول من باب التصوف.

 وطرق السادة الصوفية رضوان الله عليهم كفيلة بوسائل التربية و تقويم السلوك الفردي         والاجتماعي في كلِّ زمن بقدر حاجة الإنسان وتطور الحياة.

لذلك كان ظهور كلِّ طريقةٍمرهوناً بوقت ومحدوداً بزمن - فقد ظهرت من قبل - الرفاعية والقادرية والأحمدية البدوية وفروعها وأدَّت رسالتها التربوية فأبرزت رجالاً من أكابر العلماء العاملين والقادة المصلحين والأدباء المبدعين لا تزال موسوعاتهم موارد الارتواء لطلاب المعرفة ورواد الإصلاح، وهذا شأن الوارثين من الأنبياء والمرسلين الصالحين والعلماء المجتهدين ينشرون تعاليمهم المناسبة لقدرات الناس في أوقات الحاجة إليها والانتفاع بها مصداقاً لقوله :(العلماء ورثة الأنبياء) وقوله (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)...

وجاء المنهج العبادي في الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية محققاً لتطلُّعات المؤمنين الصادقين إلى التغيير مناسباً لطاقاتهم واحتياجاتهم للارتقاء إلى مستوىً أفضل من أعمال الخير والبرِّ وإسعاد الأمة المحمدية والدعوة إلى الله على بصيرة وعرفان.

وجاءت الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية محققة للتطلعات ووسيلة إلى بلوغ أسمى الغايات والترقِّي بالإنسان في درجات المعارف والإدراك، وليس معنى هذا أنها حديثة العهد بالوجود فقد سبق وأن انتظم فيها وتعبَّدَ بأورادها أفذاذٌ من العلماء والأولياء الصالحين، وبمكتسباتهم من الطريقة استطاعوا أن يظهروا للأمة الإسلامية خدماتهم الجليلة لأحكام الشريعة وقواعد استنباطها، وللتفسير وعلومه، ولأحاديث رسول الله  وعلومها، وللغة العربية وقواعدها وغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه ضرورة الدعوة في ذلك الوقت. وكان منهج الطريقة سراً لا يمكن إفشاؤه ونشره بين الناس لأنَّ إشارات العارفين وواردات السالكين قد أفادت عدم الإذن لهم في إذاعة معارفهم وإظهار طريقتهم، وحين أشرقت شمس الطريقة على العالم، وضاع نشرُها العَطِرُ وعَرْفُها الزكي، وهبَّت رياحها المبشِّرات بعهد جديد، كان مشرقها - من السودان - إماما لا يعبأ بإظهار مزيته وعلو قدره واتصال نسبه بآل بيت الرسول  ولا برئاسته لديوان الأولياء رضي الله عنهم بل يسدل على ذلك كلِّه ستورا تخفيه وتحول بينه وبين من يتطلعون إلي معرفته فيه وقد قال:

ضلَّ العليمُ بمــوردي ومعينِه       ضـلَّ الخبيُر بساحتي ودنـاني

وقال:

عصارةُ مافي الكون لكن لحكمة       خفيتُ عن الإبصار بل والبصيرة

وقال:

وجديَ محمودُ المقام وشافـعي       وإنَّ بني الزهراء أهلي وعصبتي..

ولم يحفل بالكرامات وخوارق العادات التي ألِف الناس رؤيتها من مشايخ الطرق الصوفية لا لأنه ينكرها أو ينسب الذين ظهرت علي أيديهم إلى نقصٍ في معرفتهم أو شكٍّ في اقتدارهم، ولكن لأنَّه ظهر إلى جانبها خوارق عادات ذات صبغة ظُلمانية تصدر عن أدعياء الصلاح والولاية وهم أبعد الناس عما انتسبوا إليه وظهروا به بين الناس لخدمة أغراضهم الدنيوية، ولكنه اعتبر هداية الناس وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وإمداد أرواحهم بقواها المحرِّكة للسير إلي الله تعالي والجهاد فيه أساسا لدعوته، وابراز كرامته علي يد أحبابه، أو لأبناء الطريقة في بلد غير السودان ليجذبهم إلي الإسلام ويدخلهم في حظيرته - تحت لواء الطريقة - بقيادته وفي ضياء إشراق كلماته من خلال درسه الذي ظل يتحف به طلاب العلم السالكين زُهاء أربعين عاما يجيب علي أسئلة الحائرين وعن خواطر المريدين بما يزيل الشكوك ويصحِّح عقائد الإيمان ويُثلج الصدور، ويخرج الناس من الظلمات إلي النور، وهذا دأبه قبل الانتقال وأداؤه قبل الرحيل إلي عالم الغيب، محجوبا عن الأبصار، مشهودا بأنوار البصائر، وتراثه علم الصدور، وبابه باب الهبات لكلِّ طالب منحةِ، لأنَّ الله تبارك وتعالي كما اصطفي الأولياء للهداية والإرشاد كتب عليهم أن يكونوا رحمةً للعالمين إقتداء بسيد الأولين والآخرين.                 

 قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون، إنَّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}  صدق الله العظيم.

محمد الكاتيابي


الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه

رأى الإمام جعفر الصادق رضي الله رجلا يخطب في الناس وقد تجمَّع العوامُّ حوله وهو يخطب فيهم فدنا منه الإمام جعفر ليستمع لما يقوله فسمعه يعظهم فحدَّثهم بالحقِّ محضا ساعة ثمَّ حدَّثهم ساعة بما يشبه الحق،ثم حدَّثهم بالباطل فاستدرجهم شيئاً فشيئا حتى أقنعهم بالباطل، ثمَّ انصرف، فتبعه الإمام جعفر، فرآه مرَّ على خبَّاز فسرق منه رغيفين ثمَّ مرَّ على مسكينين فتصدَّق بالرغيفين، ثمَّ مر على صاحب رمّان فاختلس منه رمانتين، ثمّ مرَّ على مسكينين فتصدَّق بالرمانتين. ثم سار حتى وصل إلى منزله فجلس أمام الباب، فدنا منه الإمام جعفر الصادق وسلَّم عليه ثمَّ سأله لم فعل هذا ؟ قال الرجل للإمام رضي الله عنه: أرأيت لما سرقت الرغيفين كتبت لي سيئتان ثم لما سرقت الرمانتين كتبت لي سيِّئتان أيضاً فجزاء سيِّئة سيِّئة مثلها، فهذه أربع سيئات، ثمَّ لما تصدقت بالرغيفين كتبت لي عشرون حسنة ولماتصدَّقت بالرمانتين كتبت لي عشرون حسنةً فالحسنة بعشر أمثالها فهذه أربعون حسنة خُذْ منها أربع سيئات فيبقى لي ستُّ وثلاثون حسنة، فتعجَّب الإمام جعفر من ضلاله وقال له:ألم تقرأ ياهذا قوله تعالى {إنَّما يتقبَّل الله من المتَّقين} فيجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى مصفَّى من الشوائب ومحبطات الأعمال.

 


صدق الإخاء في الدين

قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه لتلاميذه أيدخل أحدكم يده في جيب أخيه فيأخذ منه إذا احتاج ؟ قالوا لا. قال: لستم بإخوان، وفي هذا تصديق للحديث (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لايؤمن من بات شبعان وجاره جائع). فمتى نتخلق بهذا الخلق الرفيع الذي بغيره لايمكن أن نسمِّي أنفسنا إخواناً.