صور بـدرية ...  آل بـيت الـنـبـي فـي بـدر

أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها


صور بدريـة ...  آل بـيت الـنبي فـي بدر

لما تراءى الجمعان في بدر الكبرى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوِّذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالرجوع فرجعوا إلى مصافِّهم، وقال لهم خيرا، لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بن عمِّه، وقومه في أوَّل قتال، ثم نادى منادي المشركين: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال النبي صلى الله عليه وسـلَّم: قم يا عبيدة بن الحارث  ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم  قم يا حمزة، قم يا علي. فلما قاموا ودنوا قالوا لهم: من أنتم لأنهم كانوا في الدروع لا يعرفون، قال عبيدة: عبيدة  وقال حمزة: حمزة . وقال علي:  علي  قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأمَّا حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بضربتين كلاهما أصاب صاحبه، وكرَّ حمزة وعلي رضي الله تعالى عنهما على عتبة فأجهزا عليه، وحملاه إلى صفوف المسلمين، فأفرشه صلى الله عليه وسلَّم قدمه الشريفة فوضع خدَّ عبيدة عليها فقال رضي الله الله تعالى عنه: ألست شهيدا يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: أشهد أنك شهيد  وهذه أول مبارزة وقعت في الإسلام كان أبطالها آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. قال الإمام علي كرم الله وجهه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا احمرَّ البأس وأحجم الناس، قدَّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرَّ السيوف، فقُتل عبيدة بن الحارث بن عبد المطَّلب يوم بدر، وقُتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة  والشجاعة متوارثة في بني هاشم الذين كانوا سادة قريش على مرِّ الأيام هم من شجعان قريش المعدودين ولما دخل أبرهة مكة فرَّت قريش واعتصمت منه برؤوس الجبال، إلا ما كان من أمر عبد المطَّلب بن هاشم رضي الله تعالى عنه، فإنَّه جلس في الحرم عائذا به وقال لقريــش: والله لا أترك بيت الله أبتغي العزَّ في غيره  شجاعة وإيمان لا يكونان في غير المؤمن،هذه هي الشجرة التي منها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقال الإمام الصرصري رضي الله عنه

منتخــب من معشر أكرم بهم مـن معـشر

شـوس كمـاة قـادة بيـض كـرام صـبر

وهـم لعمري سـادة الناس بكـلِّ الأعصـر

ولقد كان في شجاعة سيِّدنا الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما في كربلاء خير دليل على شجاعة بني هاشم وإيمانهم فقد كانت تهجم عليه الجماعة من الفرسان فيكرُّ عليهم بسيفه فيتفرقون عنه ويلوذون بالفرار كالغنم المذعورة فما قدروا عليه رضي الله تعالى عنه إلا بعد أن رموه ـ لعنهم الله ـ بالنبل من بعيد..

أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟

ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر:إنكم عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، أي بل يأسره، ومن لقي أبا البحتري بن هاشم أيضاً فلا يقتله، لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونصَّ على العباس بن عبد المطلب، فقال أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه: أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس لأنه تقدَّم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أوَّل من قتل من الكفار مبارزة، وعشيرته وهي بنو عبد شمس قتل منها جماعة لئن لقيته يعني العباس لألجمنّ بالسيف. فبلغت تلك المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ فقال عمر: والله إنَّه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص فقلت: يا رسول الله دعني اضرب عنق أبي حذيفة بالسيف فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا.وفي هذا دليل على أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان مؤمنا يخفي إيمانه، وقد همَّ أن يلحق بالمسلمين في المدينة فأمره صلى الله عليه وسلم بالاستقرار في مكَّة وبشره بأن الهجرة تختم به.

مواقف للصديق

رضي الله تعالى عنه

عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه قال: أخـبروني من أشجـع الناس ؟: قالوا: أنت. قال: أشجع الناس أبوبكر؛ لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم عريشا فقلنا: مـن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً سيـفه، لا يهـوي إليه أحد إلا أهوى إليه. وما يدلُّ على شجاعته ما وقع له مع أهل الـردّة، فلم يَخَفْهُم ولم يخَفْ في الله لومة لائم. وقد استدلَّ ابن حجر العسقلاني رضي الله عنه بهذه الآية في أحقيَّة الصديق بالخلافة {يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبُّهم ويحبُّونه أذلَّةً على المؤمنين أعـزَّةً على الكافرين يجـاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم}. (المائدة 54) وفيها شهادة من الله عزَّ وجلَّ بشجاعته رضي الله تعالى عنه.

الملائكة يوم بدر

 نصر المولى عزَّ وجلَّ المؤمنين بالملائكة يوم بدر، فقاتلوا معهم وكانوا في سائر الأيام يكونون مددا وعددا لا يقاتلون، وما كان هذا إلا لعظم هذه الغزوة التي سمِّيت بغزوة بدر الكبرى  وغزوة القتال   وغزوة بدر العظمى  و غزوة الفرقان  قيل أمدَّهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثمَّ أكملهم بخمسة آلاف، قال تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدَّكم ربُّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربُّكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين}  وقيل إنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفضل منسوبا لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه المؤمنين، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفَّار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط عليه السلام. جاء في السيرة الحلبيَّة أنه كان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها على ظهورهم إلا جبريل قيل كانت علي عمامة صفراء، وقيل حمر اء. وقال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر، وبعضهم بعمائم صفر وبعضهم بعمائم سود ولا بدَّ أن تكون لهذه الألوان مزيَّة على غيرها وكانت عمائم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على هذه الألوان كما جاء في صفته الشريفة.

 وهذا يدلُّ على الأصل الذي اعتمد عليه الأقطاب في الألوان التي ترمز للطرق الصوفية فالرفاعية اللون الأسود والبدوية الأحمر والقادرية الأخضر والدسوقية الأبيض والشاذلية الأصفر.وقد تحدَّث بعض مشائخ الصوفية رضي الله تعالى عنهم عن سرِّ اشتراك الملائكة في القتال يوم بدر فقالوا: لأنهم أشبهوا الملائكة يومئذ في الأمور التالية:

أولا: طاعتهم المطلقة فقد خرجوا للغنيمة ولم يخرجوا للقتال ولما أمرهم صلى الله عليه وسلَّم بالقتال لم يعصوا أمره وهذه صفة الملائكة الذين قال الحقُّ عزَّ وجلَّ في وصفهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم 6) فأشبهوا الملائكة من حيث الانقياد المطلق.وقد سُرَّ رسول الله صلى الله علي وسلم من كلمة المقداد رضي الله عنه لما قال له:  يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف 

ثانيا: أشبهوا الملائكة في امتناعهم عن الطعام والشراب لأنهم كانوا صائمين فقد كانت الغزوة في السابع عشر من رمضان وإن لم يكونوا صائمين فبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: سقطت الأنساب بينهم وبين قومهم فقاتل الرجل أباه وأخاه وابنه في سبيل الله وكذلك المـلائكة لا أنساب بينهم، فأشبـهوهم مـن هذه الجهة..وقال الإمام علي رضي لله تعالى عنه: ولقد كنَّا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله نقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا إلا إيمانا وتسليما. وكان مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قبل أن يسلم، فقال لأبيه بعد أن أسلم: لقد أهدفت لي يوم بدر مرارا، فأعرضت عنك. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لو أهدفت لي لم أعرض عنك. وقد صحَّ أنَّ أمين الأمَّة أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنه قتل أباه يوم بدر، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قتل خاله في بدر،إن هذه الأشياء قد اجتمعت في غزوة بدر دون غيرها من الغزوات لذلك خصَّها الله تعالى بهذه المعجزات العظام.

فرحة بالنصر

ولما قدم صلى الله عليه وسلَّم المدينة، خرج المسلمون للقائه وتهنئته بما فتح الله عليه، فتلاقوا بالروحاء، وتلقَّته الولائد أي الصبايا  عند دخوله المدينة بالدفوف وهنَّ يقلن:

طلع البدر علينا من ثنيَّات الوداع  

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

وتلقَّاه أسيد بن الحصير،فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقرَّ عينك.

حسد على النصر

لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من القتال في بدر وقد كتب الله له النصر، استقبلته امرأة يهودية، على رأسها جفنةٌ فيها جديٌ مشوي، فقالت:الحمدُ للهِ يا محمَّدُ الذي سلَّمك، وقد كنتُ نذرتُ للِه إنْ قدمتُ المدينةَ سالماً لأذبحنَّ لك هذا الجديَ ولأشوينَّه، ولأحملنَّه إليك لتأكلَ منه  فأنطق اللهُ الجديَ فقال: لا تأكلني يا محمد فإنِّي مسموم  وهذا دليل على أنّ أهل الكفر ملةٌ واحدة، فإن لم يقدر عليه المشركون في المواجهة في بدر قَدَرَ عليه اليهودُ في المدينة بالغدر ولكنَّ عينَ الله التي لا تنامُ كانت تكلؤه في كلّ أحواله (ورد الله الذين كفرو بغيظهم لم ينالوا خيرا...)

د. عبدالله محمد أحمد


 


أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها

أكرمها الله بأن جعل مرقد نبيِّه صلى الله عليه وسلَّم في حجرتها فمن زار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد زار بيت عائشة رضي الله تعالى عنها قال الواعظ الأندلسي رضي الله عنه في هذا الشأن :

إني أقـولُ مُنبِّهـاً عـن فَضــْلِها       ومُترجمـاً عـن قولِهـا بلسـاني

يا مُبغضِـي لا تـأتِ قـبرَ محمـد       فالبيـتُ بيــتي والمكـانُ مكاني

   كان زواج السيدة عائشة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم  من السماء كما في الحديث النبوي عن هشام عن عروة عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أريتك في المنام مرتين  أرى أنك في سرقة من حرير، ويقول هذه امرأتك، فكشف فإذا هي أنت ، فأقول إن يكُ هذا من عند الله يُمْضِه ).

أنا بِكْـره العذراءُ لــم أرَ غـيرَه        اللـه زوَّجـــني به وحبــاني

وأتـاه جبريـلُ الأمـينُ بصـورتي       وأحبَّني المختــار حـينَ رآنـي

 تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع سنين ، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين  ولم يتزوَّج النبي صلَّى الله عليه وسلم بكرا غيرها ، زوَّجه إياها أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه .

وأنا ابنة الصديــق صاحب أحمـد       وحـبيبه فــي الـسرِّ والإعـلان

نصـر النبي بمــــاله وفــعاله      وخروجه مـــعه مـن الأوطـان

وهـو الـذي لم يخش لومة لائـم         في قتـل أهـل البغـي والعـدوان

نشأت في بيت مؤمن :

وأخـذتُ مـن أبـويَّ دين محمـد         وهمـا علـى الإسـلام مصطحـبان

ونزل عليه الوحي في بيتها وفي فراشها رضي الله تعالى عنها :

أوحـى إليـه وكنـت تحت ثيابـه           فحنـا عـليَّ بثوبــه وخبانــي

محنة الإفك

   ذكرها البخاري في حديثه عن عروة عن عبد الله  عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين أزواجه، فأيَّتهن خرج سهمُها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي، فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، فأنا أُحمَلُ في هودجٍ وأُنزَل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلةً بالرَّحيل ،فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلي الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي مصنوع  من جزع ظفار وظفار بلد باليمن  قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلَّوه على بعيري الذي كنت اركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذا ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم،  أي لم يكنَّ سمانا ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنتُ جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمرَّ الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فقصدتُ منزلي الذي كنت فيه فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ، فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمتُ وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي  من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني وكان يراني قبل الحجاب، فأيقظنى باسترجاعه  قوله  (إنا لله وإنا إليه راجعون)  حين أناخ راحلته  فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا ليستريحوا عند الهجير ، وكان الذي تولي الإفك عبد الله بن أُبي، فقدِمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا (أي مرضت) والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك (أي يتناقلونه) ، ويريبني في وجعى أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أري منه حين امرض، إنما يدخل فيسلِّم ثم يقول كيف تيكم ؟ يشير للسيدة عائشة رضي الله عنها ولا يخاطبها  ولا أشعر بشيء من ذلك حتى شفيت من المرض ، فخرجت أنا وأم مسطح فقالت: تعس (مسطح) فقلت لها: لبئس ما قلت أتسبِّين رجلاً شهد بدراً فقالت: ألم تسمعي ما قالوا ؟ فأخبرتني بقول الإفك، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلي بيتي دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف إياكم فقلت: ائذن لي إلي أبوي قالت: وأنا حينئذ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي : ما يتحدث به الناس فقالت: يا بنيَّة هوِّني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت إمراة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت :سبحان الله ولقد يتحدث الناس بهذا، قالت:فبتُّ تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين تأخر الوحي  يستشيرهما في فراق أهله فأمَّا أسامة فاشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الودِّ لهم فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً، أما علىُّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيِّق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك ،  فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : يا بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك فقالت: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً أعيبه عليها اكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتاتي الداجن فتأكله. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل وقد مكث شهراً لا يوحي إليه في شأني شيء قالت:فتشهد ثم قال : يا عائشةُ فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئةً فسيبرئك الله وإن كنت الممتِ فاستغفري الله وتوبي إليه فإنَّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فلما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة وقلت لأبى :أجب عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي : أجيبي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن ، فقلت إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني لبريئة لا تصدقون بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني بريئة لتصدقني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم نِمتُ على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله ولكن والله ما ظنت أن ينزل في شأني وحياً ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلَّم القرآن في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرِّئني الله فيها ، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كــان يأخذه مــن البر حاء حتى أنه ليتحدَّر مثل  الجمان من العرق في يوم شاتٍ فلما سُرِّى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قام وهو يضحك فكان أوَّل كلمة تكلم بها أن قال لي يا عائشة احمدي إليه فقد برَّأك الله فأنزل الله تعالى :{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم}. قال الشاعر :

وتكلَّم الله العـظيم بحـجَّتي         وبـراءتي في محـكـم القرآن

والله أكرمني وعظَّم حرمتي          وعلـى لسـان نبيـه برَّانـي

إني لمحصنة الإزار بـريئة         ودليل حسن طهارتي إحصاني

والله أحصنني بخـاتم رسله         وأذلَّ أهل الإفــك والبهـتان

ونحن نخلص من حديث الإفك إلى نتيجة هامة وهي التثبت من الكلام الذي يدور في الأعراض فالسيدة عائشة رضي الله عنها هي أطهر النساء ومع هذا ابتلاها المولى عز وجلَّ بأن جعل الناس يقعون في عرضها الطاهر المطهَّر فما بالك بمن دونها من النساء .

 وقد اشتهرت السيدة عائشة رضي الله  عنها بالكرم، فقد روي أنها كانت صائمة في رمضان فأتاها بعض الناس بمال كثير فتصدقت به كلَّه ولم تترك شيئاً، فقالت لها الجارية: لو تركت درهما نشتري به لحما لإفطارك ، قالت رضي الله تعالى عنها : لو كنت ذكَّرتني لفعلت، وهذا غاية الإيثار ، وهذا بعض خلق السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها .

وعن شعبة عن الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كمُل من الرجال كثير ولم يكملْ من النساء إلا أربعة السيدة خديجة والسيدة فاطمة الزهراء ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ).

روت السيدة عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب وروت عن أبيها، وروى عنها من الصحابة عمر وابنه عبد الله، وأبو هريرة وأبو موسى، ومن كبار التابعين روى عنها سعيد بن الحسين، وعمرو بن ميمون، وعلقمة وكثيرون. وقد تركت أعمق الآثار في الحياة الفقهية والاجتماعية للمسلمين، وحفظت الكثير من أحاديث المصطفي صلى الله عليه وسلم.

د. عبدالله محمد أحمد