|
انتصار أولياء
الرحمن على أولياء الشيطان
-
8
|
القاضي عياض
قال رحمة الله تعالى في (الشفاء): ومن توقيره وبره توقير أصحابه وبرهم،
ومعرفة حقهم، والإقتداء بهم، وحسن الثناء عليهم، والإستغفار لهم،
والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم، والإضراب عن أخبار
المؤرخين وجهلة الرواة وضلاّل الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد
منهم، وأن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من
الفتن أحسن التأويلات والمحامل، ويخرجه أصوب المخارج إذ هم أهل ذلك،
ولا يذكر أحداً منهم بسوء، ولا يغمض عليه أمراً، بل يذكر حسناتهم
وفضائلهم وحميد سيرهم، ويسكت عما وراء ذلك كما قال في حديث الطبراني
عن ابن مسعود (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا). وقال الله تعالى {محمد رسول
الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً
يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك
مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ
فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين
آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} وقال تعالى
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين
فيها أبداً، ذلك الفوز العظيم} وقال الله تعالى {لقد رضي الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة
عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} وقال الله تعالى {من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما
بدلوا تبديلاً}.
ثم ذكر رحمه الله تعالى أحاديث وآثاراً كثيرة في فضلهم رضي الله عنهم.
منها قوله في حديث الترمذي (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً
بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم
فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله تعالى يوشك
أن يأخذه) وأذية الله تعالى عبارة عن فعل ما لا يرضاه، إذ معناه
الحقيقي لا يتصور في حقه تعالى فهو مشاكلة. (قاله الشهاب الخفاجي).
ومنها قوله في حديث مسلم (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد
ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ومنها قوله في حديث الديلمي وأبي
نعيم (من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا
يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). الصرف: النفل، والعدل: الفرض ومنها
قوله في حديث البزار والديلمي عن جابر: (إن الله اختار أصحابي على
جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر
وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير). قال
الشهاب الخفاجي في شرح هذا الحديث: فكلهم علماء عدول كما في الحديث
(خير القرون قرني ثم وثم) وهذا سبب ما حكاه إمام الحرمين رحمه الله
تعالى في الإجماع على عدالتهم كلهم صغيرهم وكبيرهم فلا يجوز الإنتقاد
عليهم بما صدر عن بعضهم، مما أدى إليه اجتهاد لما أوجب القطع بأنهم
خير الناس بعد النبيين والمرسلين، ولما اتصفوا به من الهجرة وترك
الأهل والأوطان وبذل النفوس والأموال، في نصرة الدين، وقتل الآباء
والأبناء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، وغير ذلك من
المنح الإلهية. ومنها حديث الطبراني عن خالد بن سعيد أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لما قدم من حجة الوداع إلى المدينة صعد المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني راضٍ عن عمر وعن عثمان
وعن عليّ وعن طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، فاعرفوا
لهم ذلك، أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية، أيها الناس
احفظوني في أصحابي وأصهاري وأختاني لا يطالبنكم أحد منهم بمظلمة،
فإنها مظلمة لا توهب في القيامة غدا). ومنها حديث أبي نعيم والديلمي
عن أنس: أن رسول الله قال (احفظوني في أصحابي وأصهاري، فإنه من حفظني
فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله عنه
ومن تخلى عنه يوشك أن يأخذه) ومن الآثار قول الإمام مالك بن أنس رحمه
الله تعالى: من أبغض الصحابة وسبهم فليس له في فيء المسلمين حق. قال
في الشفاء: ونزع أي استدل بآية سورة الحشر، وهي قوله تعالى {والذين
جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان} (انتهى كلام الشفا).
الأئمة الأربعة
ثم كان الأمر على ما قدمنا من فضل الله العظيم على عباده المؤمنين بأن
جمعت جميع روايات الصحابة والتابعين من المتقدمة أسماؤهم حتى انتهت
إلى أربعة من خيرة هذه الأمة المكرمة المشهورين بالأربعة الأئمة
المجتهدين، الذين هم من خيرة عصور هذه الأمة المبينة في قول الصادق
المصدوق (خير القرون...) الحديث.
وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية أنهم من مصداق قوله تعالى (وأولي
الأمر) الذين ينتهي إليهم الإستنباط من الكتاب والسنة والإجماع،
والذين هم المرجع الأول والحجة الأولى في دين الله تعالى، وقد أناروا
الطريق في ذلك لكل من كان على قدمهم من خيرة هذه الأمة ممن توجد فيه
أهلية للقياس والإستنباط في أصول الدين من فروعه وأحكامه. وأجمع خيار
الأمة بأنهم قد رووا جميع ما صدر عن حضرته - من الأقوال - والأفعال
والتقريرات- في جميع الأمور الدينية الشرعية الفرعية، وكل واحد منهم
قد جمع ما وفقه الله إليه من بياناته الشريفة في هذا الدين الحنيف
السمح السهل، للتخفيف على جميع كل من يرغب التقرب إلى الله ممن
يقتدون بحضرته. وصار الأمر على ذلك وأطبق خيار علماء الأمة على ذلك،
وكان جميع ما وفقوا فيه بالحصر من بياناته الشريفة المتنوعة في الحكم
الواحد للتيسير كما قدمنا، وليس هو خلافاً بينهم، ولا ما يسمى برائحة
الخلاف. إذ الجميع على الحق الصريح الواضح، والحق واحد، لا خلاف فيه
بين أهله، وما الخلاف إلا قد نشأ عن المخالفين لأهل الإجماع ممن
ينتسبون إلى الإسلام اسماً ويظن كل جاهل بهم أنهم من أئمة المسلمين،
ولم يدر أنهم لأهل الحق مخالفون، فقد شوهوا الإسلام والمسلمين
بنسبتهم إليه وإليهم، لأنه يظن كل جاهل بهم أنه يوجد خلاف بين
المسلمين، ومن إطباق جهله يقول هؤلاء الأئمة الأربعة يوجد بينهم
الخلاف.
وكيف يتصور عاقل أنهم يكونون أئمة للمسلمين وأنهم على الحق وانتهت
إليهم جميع أحكام الدين من أصل وفرع، ويوجد الخلاف بينهم وهل الحق
فيه خلاف؟ وكيف يكون حقاً والخلاف فيه؟ إذ لا ثقة بحكم ولا بقائله
ولا المنقول عنه ويكون قد التبس الحق بالباطل والمحكم بالمتشابه-
وهذا باطلٌ البتة.
ومن يفهم أن كل دخيل على الإسلام والمسلمين ممن ينتسبون إليه وإليهم
على حق، فهو مخطئ، ومن هؤلاء الذين أحدثوا الخلاف في الفرعيات حتى
شككوا البسطاء من المسلمين بنسبتهم هذه، خصوصاً إذا كان لهم أشياع
ومشايعون ممن على مبادئهم من الضالين، مع العلم بأنهم لأهل الحق
وأتباعه معروفون، وأنهم في نظرهم مخالفون هم ومن تبعهم من الفرق
المخالفة حيث قال سيد العالمين (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع
ربقة الإسلام من عنقه) الحديث يرويه أبو داود.
فمن مهام بيانه الشريف أنه يوجد بين المسلمين أقوام، يظن الناس فيهم
أنهم على الحق والصواب، وهم مخطئون، مرقوا من الدين كما مرق السهم من
الرمية، فمثل هؤلاء شوشوا على البسطاء من المسلمين حتى ظن الكثير
منهم في تعدد معان احتمالات الآيات، أو الأحاديث أنها خلاف في
الآراء، جهلاً منه ومنهم، بأن هذه آراء مختلفة- ولكنها معاني مشتملة
محتملة.
فقد عرفت أن كل من يفهم أن هذا يسمى خلافاً، فهو جاهل بأمور دينه، قاصر
على إدراك أصوله وفروعه ولعجزه وقصر همته عن إدراك ذلك يقول بخلاف
الأئمة.
وما جاء أحد من بعدهم وادعى هذه الدعوى إلا كان ما ادعاه مندرجاً تحت
ما دونوه، واشتمل عليه جميع ما استنبطوه، ولم يترك منهم الأوائل
للأواخر شيئاً، بتوفيق الحق عز وجل. وأما ما يرى من ظاهر التغاير في
الحكم الواحد بين الأئمة، فليس بخلاف لأن الغرض من بيانه الشريف
تأدية الحكم على أي وجه، يراد تيسيراً للعبد.
ولذا كان إجماع خيـــار الأمة على أن هؤلاء الأربعة، هم الذين أحاطوا
بالكتاب والسنة،ولم يشذ منهم أحد. فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين
خيراً.
ولست أدري من ينكر على هؤلاء الأئمة الكرام وتابعيهم من خيرة أهل
الأنام هل هو مخبول في عقله، أو مطعون في نسبه وأصله، لأنه ما تعلم
العلم وتربى وترعرع إلا في حضانتهم، ونشأ على موائد كرمهم، ثم بعد أن
بلغ نكص على عاقبيه وأنكر نعم ربه عليه، وكان عاقاً لوالديه.
فكيف ينكر متابعة من هم خيرة خير القرون المجزوم لهم بالعدالة والإتقان
عادلاً عنهم إلى من وجدوا في أفسد وأسوأ قرون أهل الزمان، من جاءوا
بعد الألف، أو من أسس لهم هذه المفاسد، بعد الثمانمائة سنة أفلا
يعقلون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يسمعون؟ صدق الله العظيم حيث قال {وجعلنا
على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً. وإن يروا كل آية لا
يؤمنوا بها} الآية.
وها هو قول ولي الدين بن خلدون! وقف التقليد في الأمصار عند الأئمة
الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ودرس المقلدون لمن سواهم،
وسد الناس باب الخلاف وطرقه، لما كثر من تشعب الإصطلاحات في العلوم،
ولما علق عن الوصول إلى رتبة الإجتهاد ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير
أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه وصرحوا بالعجز والإعواز، ورد
الناس إلى تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، كل بما اختص به من المقلدين
وحظروا أن يتداول تقليد من سواهم لما فيه من التلاعب، ولم يبق إلا
نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب مقلده منهم، بعد تصحيح الأصول،
واتصال سندها بالرواية، ولا محصول للفقه اليوم غير هذا، ومدعي
الإجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه، مهجور التقليد، وهم:
(1) أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي التابعي رضي الله عنه
الإمام قدوة العلماء الأعلام وشيخ مشايخ الإسلام العالم الجليل القدر
الشهير الذكر المتفق على جلالته وفضله وعلمه. ترجمته واسعة أفردت
بالتأليف مولده سنة 80 وتوفي ببغداد سنة 150 وله بعد المسند
المخارج.. رواها أبو يوسف عنه. وله آراء جمة في جميع أضراب الدين.
أخذها عنه أصحابه ومتابعوه. كأبي يوسف- ومحمد وزفر بن الهزيل-
وغيرهم. حتى دون عنه جميع أصول فقه مذهب الحنفية التي انتهت بالجامع
الكبير، الذي شرحه العلامة السرخسي. وانتشر مذهبه بالكوفة والشام
والعراق وما وراء النهرين والروم وغيرها. وأتباعه كثيرون جداً، من كل
من وفقه الله بمتابعته.
(2) مالك بن أنس الصبحي إمام دار الهجرة رضي الله عنه
الوارث لحديث رســول الله، الناشر في أمته الأحكام والفصول، العالم
الذي انتشر علمه في الأمصار، واشتهر فضله في الأقطار، ضربت له أكباد
الإبل وارتحل الناس إليه من كل فج كان مولده سنة 93، وتوفي سنة 179،
وله بعد الموطأ المدونة، وله رسالة في الوعظ، رسالة في الرد على
القدرية، وكتاب في النجوم، وتفسير غريب القرآن، وأخباره كثيرة. ومن
المدونة أسست أصول مذهب المالكية. وكان معاصراً للإمام أبي حنيفة.
وكلاً منهم أخذ عن الآخر، وكل شهد لصاحبه بالفضل والعلم. وانتشر
مذهبه بالحجاز والبصرة وما والاها. وبأفريقيا والمغرب والأندلس ومصر.
وأتباعه كثيرون جداً. ومن كل من وفقه الله تعالى لمتابعة مذهبه.
(3) أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي رضي الله عنه
الإمام البعيد الصيت والذكر، الجليل القدر، علامة الدنيا بلا نزاع،
الحافظ الحجة النظَّار. المتفق على جلالته وفضله، وعلمه وشهرته في
أقطار الأرض تغني عن التعريف به. وترجمته واسعة أفردت بالتأليف.
مولده بغزة سنة 150 وتوفي بمصر سنة 204 وله بعد المسند كتاب الأم-
وكتاب في أحكام القرآن والسنن واختلاف الحديث. وكتاب السبق والرمي،
الذي لم يسبقه إليه أحد والأشربة وفضائل قريش وأدب القاضي والمواريث
وهو تلميذ الإمام مالك. وروى عنه خلق كثيرون، منهم الإمام أحمد بن
حنبل قال الفضل بن زياد: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: هذا الذي
ترون كله أو عامته من الشافعي. وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: حفظت
القرآن وأنا ابن سبع، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر وله أتباع كثيرون
جداً من كل من وفقهم الله تعالى لمتابعة مذهبه وانتشر مذهبه انتشار
مذهب أبي حنيفة ومن دعائه: اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به
المقادير وهو مشهور بين العلماء بالإجابة وأصل فقه مذهبه الأم.
(4) أبو عبد الله أحمد بن حنبل البغدادي رضي الله عنه
الإمام الثقة الثبت الأمين الحافظ الحجة النـظار المتفق على جلالته
وورعه وعلمه. كان من عِلْيَةِ أئمة الحديث ترجمته عالية ذكرت مفردة
ومضافة. ولد سنة 164 وتوفي ببغداد سنة
241- وله غير المســند كتاب في
الناسخ والمنسوخ- وكـتاب في الرد على من ادعى التناقض في القرآن-
وكتاب في التفسير- وكتاب في التاريخ. وكتاب في فضائل الصحابة، وكتاب
في المناسك، وكتاب في الزهد، وكتاب في الصلاة، ومنها تأسست أصول كتب
مذهب الحنابلة- وهوتلميذ الشافعي وانتشر مذهبه انتشاراً عظيماً في
بلاد الشام وغيرها. وقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم.
فهؤلاء الأربعة الأعلام، انتهت إليهم أئمة الدين الإسلامي ووقف التقليد
عندهم، في سائر الأقطار والأمطار، إلى هذا الوقت والأوان وقال كتاب
حجة الله البالغة- اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر الصحابة نشأ (أي
جماعة) من حملة العلم. إنجازاً لما وعد رسول الله حيث قال >يحمل هذا
العلم من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ< فأخذوا عمن اجتمعوا معه منهم صفة آداب
قضاء الحاجة- والوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما
يعرض ويكثر وقوعه من مستلزمات الناس في أمور دينهم ودنياهم. وسألوا
عن المسائل واجتهدوا في ذلك كله حتى صاروا كبراء قوم ووسد إليهم
الأمر ونسجوا على منوال شيوخهم ولم يألوا في تتبع الإيماءات
والإقتضاءات فقضواـ وأفتوا ورووا وعلموا فجزاهم الله عن الإسلام
والمسلمين خيراً.
السابق
التالي
|