في السنة الخامسة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الدولة
الإسلامية في يثرب تزداد قوة يوماً بعد يوم، وبخاصة بعد النصر المذهل الذي أحرزه
المسلمون يوم بدر، ولم تكن هزيمة أُحد بعد غير كابوس مزعج، سرعان ما أفاقت منه
الدولة الناشئة، فلم تستحل بمرارة الهزيمة فيه شبحاً هزيلا، بل خرجت منه بدرسه
وعبرته، فكانت أصلب صلابة، وأشد عودا.
وكانت قريش
قد أنهكتها
الحرب وتوالت
عليها بسبب
الحصار الذي
فرضه رسول
الله صلى الله
عليه وسلم على
اقتصادهاـ
أيام عجاف،
أكلت أكثر مالهم
حتى أنهم
بدأوا يعيدون
النظر في
موروثاتهم
الإعتقادية
ويسألون من
يحسبونهم أهل
الذكر: أديننا
خير أم دين
محمد؟ ولكن اليهود موقدة الحرب، بعد أن أجلى رسول الله منهم بني قينقاع
والنضير، وتمركزوا في خيبرـ أرادوا أن تتفانى العرب بحرب عامة تضم جميع قبائلهم،
وتكون نتيجتها (وهو مرادهم الأعظم) القضاء على الدولة الإسلامية، فذهب وفد من
كبرائهم يطوف بأنحاء الجزيرة كلها يغريهم بحرب رسول الله، فبدأ بقريش يحرضها
ويعطيها المواعيد بالنصرة حتى نشطت قريش لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأجمعوا لذلك واستعدوا له. ثم قصد وفد الحرب من يهود إلى غطفان من قيس غيلان، واستمالوهم بالمال،
بأن لهم نصف ثمر خيبر، وبعدها راح وفد الحرب يتم جولته في أنحاء الجزيرة يحزبها على
حرب رسول الله والمسلمين، فأتوا بني مرة وفزارة وأشجع ويلسم وبني سعد. وفي الموعد المضروب تجهزت قريش وأتباعها، وخرجوا يحمل لواءها عثمان بن
طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وقائدهم أبوسفيان بن
حرب، ووافتهم بنوسليم وهم سبعمائة، وخرجت بنو أسد، وخرجت فزارة وهم ألفا بعير،
وخرجت أشجع وهم أربعمائة وخرجت بنو مرة فكان هؤلاء الذين سماهم الله الأحزاب عشرة
آلاف مقاتل في أكمل سلاح وأوفى عدة، قسموا أنفسهم ثلاثة عساكر، وجنح الأمر (القيادة
العليا) إلى أبي سفيان. وهكذا وجدت
مدينة
رســــول
الله
نفســـها
أمام هـــجوم
عام لم تتعرض
لمثله من قبل،
ثم أن فريقاً
من اليهود (بني
قريظة) كانوا
ما يزالون
يساكنون
المسلمين
المدينة، وهم
من قد علمت
الناس (عراقتهم)
في الخيانة،
فكيف تصرف
القائد
الملهم والنبي
الأعظم أمام
هـــذا الخطر
الداهم
والخطب
الآتي؟ أقبل على الصحابة يستشيرهم والمشورة من القائد البصير ليست استنارة
بالآراء وكفى، بل هي كذلك مسبار لمدى ما لدى الناس من طاقات الصمود والمقاومة وكشف
عن خوالج نفوسهم، ومقياس صادق لعتادهم الروحي، ثم هي بعد حافز قوي لهم وصوت بعيد
المدى يعطي الأنفس شحنة من المعاني الكبار، فالأمر أمرهم، والمسئولية لا ينفرد بها
أحد فليختر أمرؤ لنفسه. وبعد فترة
من الصمت
ينطلق صوت
هادئ يقول: يا
رسول الله،
إنا كنا بفارس
إذا حوصرنا
خندقنا،
وتفرس رسول
الله في وجوه
أصحابه فقرأ
فيها
الارتياح
لفكرة سلمان
الفارسي،
فوجه أمره بحفر
الخندق. ولكن
هل كان حفر
الخندق خطة
دفاعية وحسب؟ إن العرب ولا ريب لم تعرف هذه الخطة من قبل، ثم هي فكرة قد تأباها
فروسيتهم التي تؤثر المواجهة على الاحتماء وتفتخر بمقارعة الأبطال، وترى في الفرار
عار الدهر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدفع عن أمته سطوة هذا
الهجوم، أو كما قال هو في رواية ابن اسحاق (رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة،
وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر شوكتهم لأمر ما ساعة) هذه واحدة والأخرى أن يكون
هذا الخندق برهاناً مادياً أن دعوته صلوات الله عليه ليس قصاراها تحقيق مجد حربي. فالحرب وإراقة
الدماء عنده
ضرورة، فإذا
كان له مندوحة
عنها، ولم تقم
في وجه دعوته
حواجز تصدها،
فهو يؤثر
السلم لا ريب.وخط
رسول الله
الخندق بيده،
وبدأ
المسلمون في
الحفر. وها هنا نقاط ثلاث تعيننا على تصور العمل
(المعجز) الذي قام به المسلمون في حفر الخندق وهو: طول الخندق واتساعه وعمقه،
والظروف التي أظلت المسلمين وقت الحفر ثم المدة التي أنجزوا فيها حفر الخندق. لقد كان الخندق يشمل الجهة الشمالية من المدينة مما يلي الشرق، لأنها
الناحية التي يسهل منها الهجوم، فالمدينة من الشرق والغرب والجنوب حرات مرتفعة،
يصعب على المهاجم أن يهاجم من ناحية على حين يسهل الدفاع عنها ولذلك وكَّل رسول
الله بكل جزء من الخندق قوماً وأعطى أربعين ذراعاً بين كل عشيرة، أما اتساعه وعمقه
فيصل أقرب تصوير ما حدث عندها خرجت طائفة من فرسان قريش أمثال عمرو بن عبد ود
وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهما ليسدوا بمبارزة المسلمين فوجد الخندق ولم يستطيعوا
النيل منه، حتى تيمموا مكاناً ضيقاً وضربوا خيولهم فاقتحمت منه ومعه قصدهم إلى هذا
المكان الضيق من الخندق، فإن فرسانهم تردى فيه ولم يمكنهم الخروج منه، فبين إذ رأوا
أن أضيق مكان في الخندق أعرض من مجال قفزة الجواد الأصيل يقود عنانه فارس مديد ثم
هو أعمق من أن يستطيع رجل الخروج منه وحده. ثم أن الظروف التي تمّ فيها حفر الخندق كانت قاسية من كل جانب، فالأرض
التي بحفرون فيها لم تكن سهلة بل كان منها صخرية تكد الفؤوس ويعي بحطمها أشداء
الرجال من أمثال سلمان الفارسي، والجو الذي كان يظلهم بارد غاية الــبرودة، يبين
ذلك حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري (فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة
باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم)، ويبين كذلك من هذا الحديث أن عمل الحفر لم
يكن مما يمارسه المحاربون أصلا، فإذا أضيف أن المـسلمين آنـذاك كانوا يعيـشون
فـي فاقة ومسبغة حتى يقول جابر بن عـبد الله (ولبـثنا ثلاثـة أيام لا نذوق ذواقا
وأنهم يأتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم باهلة سنخة، دسم زنخ، توضع بين يـدي
القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن). فإذا علمت
بعد أن
المسلمين في
هذه الظروف
القاسية قد
أتموا هذا
العمل في ستة
أيام، أعلمت
أي أمة كانت،
وأي معين من
الإيمان والصبر
تستنبط منه
هذه الأمة قوى
تأتي
بالمعجزات. ومع العمل الشاق
دائماً تكون الأهازيج والأرجاز فهي بما فيها من التسلية عون على التحمل لأنها تنقل
مراكز التنبه في الإنسان إلى شيء غير التفكير في التعب والألم. روى
البيهقي في
الدلائل أن
رسول الله
صلـى الله
عليه وسلم كان
أول الضاربين
في الخندق بيـده
وقال (بسم
الله وبه
هـدينا ولو
عبـدنا
شقينا يا حبذا
رباً وحب دينا)،
وروى البخاري
عن البراء
بـن عازب
قال رأيته صلى
الله عليه
وسلم، ينقل من
تراب الخندق،
حتـــى وارى
عني التراب
جلدة بطنه،
وكان كثير
الشعر، فسمعته
يرتجز بكلمات
بن رواحة وهو
ينقل من
التراب يقول:
والله
لـولا أنت ما
اهتدينا قال: ثم يمد
صوته بآخرها
ومد الصوت
بآخرها تفسره
الرواية
الأخرى (ورفع
بها صوته: أبينا
أبينا). وكان
هذا التكرار
بصوت مرتفع
لإباء الفتنة
هو الكلمة
التي يبثها
رسول الله
أصحابه، يسعر بها
حماستهم،
ويستثير لها
حميتهم،
فيأتيه
جوابهم في هتاف
جماعي موقع:
نحن الذين بايعوا محمــدا ثم
يرددونها
مرةً ثانية:
نحن الذين
بايعوا محمدا وهكذا
تسموا
الأنفس،
فتسمو
أغانيها، ولا
تهبط بها
التسلية إلى
قول ساقط، أو
لفظ مرذول أو
نغم خليع،
ولقد حدث في
أثناء حفر
الخندق أن
انتقل
أهازيجهم إلى
التسلية فقط
فارتجزوا
برجل من
المسلمين كان
يسمى (جعيلا) فسماه
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم عمرا) فقالوا:
سمّــاه من
بعد جعيل عمرا فلم ينس صاحب الرسالة صلوات الله عليه وسط هذا الزحام من العمل والترقب
أن يلفتهم إلى المعين الذي يستنبطون منه أهازيجهم، فقال (لا يغضب اليوم أحد من شيء
ارتجز به، ما لم يقل قول كعب أو حسان، فإنهما يجدان من ذلك قولاً كبيرا، ونهاهما أن
يقولا شيئاً يحفظان به أحداً). وتمَّ حفر الخندق، وتمت نعمة الله على رسوله وعلى المؤمنين، قال تعالى
{ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله
قوياً عزيزاً}، ولم استرسل في ذكر غزاة الأحزاب، فربما وجدت ما يغنيك في غير هذا
المقال، ولكني رأيت في هذا الجانب غناء وعبرة. ولنا في رسول الله الأسوة والقوة، وفي أصحابه العبرة والمثل، ولنا بعد
من إمداد الإيمان ما لا يملكه عدونا، ومن عتاد الصبر والتقوى ما نستنزل به جنوداً
لله لا يعلمها غيره، {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم
الناس، فآواكم وأيدكم بنصره}.
الـمـسـيـر��� و��
الـمـخـيـر -
3 الشئ إذا
كان منهيا عنه
له اعتباران: فمن حيث
كونه شيئا
يكرهه العبد
ويطلب الخروج منه
. ومن حيث كونه
مقضيا به عليه
يرضى به من
حيث صدوره من
الله تعالى
وبإرادته
فقالوا يحب
الرضا
بالقضاء لا
بالمقضى. فلا ترضى فعلا قد نهى عنه شرعا
وسلم لتدبير وحكم المشيئة. فالقضاء
منه ما هو
معلق ومنه ما
هو مبرم فكفر الكافر
لا يعلم أنه
مبرم إلا إذا
مات على الكفر.
وأما في حياته فيحتمل أن يكون معلق بقاؤه بدوام رضاه به وعدم تعاطى أسباب الخروج
منه فإذا تعاطى أسباب الخروج منه بالنطق بالشهادتين انقـطع بقـاؤه أى بقاء
الكفر. كما أن الجائع معلق بدوام جوعه لعدم تعاطى الطعام فعلى العبد التوجه
إلى الكسب كما يتوجه لكسب الطعام والشراب وبقية مصالحه.
فالله
سبحانه دعاه
للإيمان وهيأ
له الأسباب ولم
يمنعه ذلك إلا
رضاه بالكفر
وقال سيدي فخر
الدين رضي
الله عنه:
ما دمت في
أنت التي أنت
السوى �����
كان السوى إذ ذاك أصل الإدانـه إذ لا يصح أن
يقول تعالى
لمن يعلم أنه
لا يفعل أو لا
يستطيع أن
يفعل افعل كذا
لمن لا قدرة
له على الفعل. مثل:
أقيموا
الصلاة. فهو
قادر على أن
يصلي، فاعلم
أن أعمالنا
حقيقة لله
وحده وإنما
إضافتها لنا
ابتلاء {يا
أيها الذين
آمنوا لم
تقولون مالا
تفعلون كبر عند
الله مقتا أن
تقولوا ما لا
تفعلون} لينظر
الله سبحانه
وتعالى هل
ندعى الأعمال
لأنفسناأم
ننسبها إلى
خالقها وقد
قال سيدي إبراهيم
الدسوقي في
هذا المعنى: يا
بنى إن أنت
صمت من الذي
صومك وإن أنت
قمت من الذي
قومك. وهكذا
حتى قال يا
بنى لا تصلح
أن تكون ولدا
من أولادى إذا
أيقنت بأن ليس
لك حسنة واحدة
فهو الذي أحسن
إليك وهو الذي
أعانك لأنه لو
تركك لنفسك وشيطانك
ما فعلت شيئا
قط أو كما قال
رضي الله عنه
فالإنسان
مجبر في عين
اختياره
فالأعمال لله
تعالى خلقا
وإيجادا
وللعبد كسبا
واستنادا إذا
أراد الله
تعالى إيجاد
حركة أو معنى
أو أمر من
الأمور التي
لا يصح وجودها
الا في موادها
لأنها لا تقوم
بنفسها فلا بد
من وجود محل
يظهر فيه
تكوين هذا
الأمر فللمحل
حكم الإيجاد
لهذا الممكن
وما له فيه من
أثر فلا أثر للعبد
جملة واحدة
فـي الفعل
فلماذا يقول
أنا فعلت كذا
مع أنه لا أثر
له فيه. فلولا
أن للعبد شركة
فـي الفعل ما
صح تكليفه فإن
الله يفعل
بالواسطة
وغيرها فحكم
أفعال العبد
مع الحق كحكم
آله النجار أو
المالك ولله المثل
الأعلى وكما
قال سيدي
عمربن الفارض:
أنا
كالآلات وهو
محركي فأرى
الا رادة
منه قبل الفعل منى والأسير يـطـاوع فلا يصح
لعبد قط عصيان
الإراده
وإنما الذي يعصي
إنما يعصي
الأمر
والداعين
إليه: الرسل
والأنبياء
والأولياء
والعلماء لله
على بصيرة. {إنما امرنا لشئ إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون} إذاً الإنسان مسير مخير معا وذلك مثل الظاهر والباطن
فباطن الإنسان أو داخله قلب ينبض وكبد يعمل وكلا وطحال وجميع الأعضاء الباطنية
الداخلية مسيرة ليس لك فيها حكم فهي تعمل بالقدرة الا لهيه ولا تتوقف الا إذا
تدخلت أنت نفسك وأفسدتها بأسبـاب الفساد التي نهي عنها الله.
وظاهرها
يدك ورجلك
وسمعك وبصرك
وحواسك أعطاك
الله القدرة
على أن
تستخدمها فـي
الخير وقد
تستخدمها فـي
الشر والعباد
بالله فاليد تسرق
واللسان يكذب
بدلا من أن
يذكر الله
ويصلي على
نبيه صلى الله
عليه وسلم
ورجل يمشى
للمساجد وآخر
يمشى إلى
الحرام. ويقولون
الإنسان مجبر
مسير في
الحقيقة مختار
مخير في
الشريعة وفى
الشريعة مجبر
فـي الفروض
مختار فـي
النوافل. وفى
الحقيقة مجبر
في قضاء الله
وقدره وهو مختار
في رفع القضاء
إما بالدعاء
أو بالأسباب
فالدعاء
يتعارك مع
القضاء فيغلب
الدعاء. وبداية الخلق فـي الحديث القدسي
(أحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتعرفت عليه وبه عرفوني) أحب الله أن يعرف بجماله
وجلاله فجماله يتمثل فـي جناته وكل الأسباب الموصلة إليها ومن هذه الأسباب
الرسل والأنبياء والأولياء والدعاة إلى الله على بصيرة وجلاله في غضـبه
وعذابه ونيرانه والأسباب الموصلة إليها من النفوس والشياطين وغيرها من
القواطع. |
|