ولا تقل باتحـاد

فضيلة العلم

في محراب الإمـام

شـراب الوصل

 

ولا تقل باتحـاد

القلــوب أوعية فـإذا طاب       الوعـاء طاب ما قد حصلـه

قلبٌ يذكر الله أضحى روضه         وآخر باللهو صــار مزبله

ما منبتُ الـود كمنبتِ غيرِه         ولا سنا المسك كريح البصله

لو أسقى الحنظل شهداً دائماً         ما نبت الحنظل إلا حنظلـه

قبل أن نتحدث عن الحلول والاتحاد رأينا أن نلقي بعض الضوء عن القلب وأهميته، فالقلب هو بيت الله في الإنسان ومدار الأمر على أعمال القلوب فهو كالراعي إذا صلُح صلحت الرعية. وإذا فسد فسدت الرعية وذلك لأن أعمال القلوب أصل لأعمال الجوارح وأعمال الجوارح فرع منها وتابعة له. وقد أفصح لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة بقوله الجامع: (ألا إن في الجسد مضغة لو صلُحت صلُح الجسد كله ولو فسدت فسد الجسد كله).

فصلاح العمل الظاهر متوقف على صلاح القلب. والقلب من كونه لطيفة ربانية يتأثر بأي شيء وينطبع فيه أي شيء تظهر فيه صور الأكوان يتأثر بالمعصية وهي ظلمة ويتأثر بالطاعة وهي نور والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإذا زاد زيدت)، وهذا ما أخبر عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {كلا بلْ ران على قلوبهم}، فهذا الران أصبح حجاباً يمنع ظهور العلوم والحقائق الإلهية. ولا بد من إزالته. فالقلب خلقه الله لنفسه لا لغيره قال سيدنا داؤد عليه السلام: (يا رب لكل ملك خزانة فما خزانتك، قال: خزانة أعظم من العرش وأوسع من الكرسي وأطيب من الجنة وأنور من الشمس وهي قلب المؤمن)

وقال العلماء القلب له وجهان ظاهر وباطن. الوجه الظاهر ترابي أرضي، الوجه الباطن سماوي علوي نوراني ظاهره كثيف وباطنه لطيف. ظاهره لمباشرة الدم وباطنه لمواجهة الأنوار. ونشهد به الأسرار ونشهد به عالم الغيب فهو كالمرآة فكما أن المرآة وهي صغيرة الحجم لا يظهر فيها إلا من كان محازياً لها فإذا توجه القلب إلى الحق وكان محازياً للحق ظهرت فيه الأنوار وانطبقت فيه العلوم الإلهية على وجه الانعكاس.

وإذا انحرف القلب إلى الدنيا أو إلى غير الله ظهر فيه الحال والشهوات والحسد والحقد والكِبر وغير ذلك والقلب الذي عناه الحق وأشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هذا القلب المتعارف عليه ولكنه عبارة عن لطيفة ربانية لا ترى.

ويقول الشيخ يحيى بن معاذ حشوها جوهرة ربانية. والحديث المتواتر على ألسنة الصوفية وقيل (إن في الجسد مضغة وفي المضغة قلب وفي القلب فؤاد وفي الفؤاد روح وفي الروح سر وفي السر خفي وفي الخفي نور وفي النور أنا) سبحانك ربي لا شريك لك.

فالقلب سر إلهي. والحقائق تنطبع فيه على وجه الإنعكاس دون حلول أو اتحاد فمثلاً لو رأينا القمر مثلاً في النهر وهو في أفق السماء. هل حلّ القمر في النهر لا لم يحلَّ فيه. هل اتصل اتصالاً مباشراً بالنهر لا لم يتصل به. هل انفصل عن النهر بالطبع لا.

ولذلك يقول العلماء: فلا هو في وصلٍ بمتصل ولا بمنفصل عني وما قدر مثلي أن يحيط بمثله وأين الثرى من طلعة البدر، إنما أشاهده في صفو سري. فاجتلى كمالاً تعالى عزه أن يقسما كما أن بدر التمِّ يظهر وجهه بصفحة الغدير وهو في أفق السماء.

فلا وصل ولا فصل ولا حلول ولا اتحاد وإنما هي تهمة باطلة لا تستند لنص صريح، وعلماء الأمة منزَّهون عن هذه الاتهامات فمن فهم هذه الإشارة فليصُنها ويجب على كل إنسان أن ينظر إلى قلبه أولاً فربما يكون فيه إعوجاج.

محمد رشاد حسين

 

فضيلة العلم

قال كُميل النخعي وهو فيمن حضر زمان سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: جاءني سيدي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخرج بي إلى ناحية الجنانة، فلما أسحر تنفس الصعداء، ثم قال: يا كُميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة عالمٌ رباني ومتعلِّم على سبيل النجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ومنفعة المال تزول بزواله، يا كُميل مات خُزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، ها هنا لعلوماً جمة (وأشار بأصبعه إلى صدره) لو وجدت حملة، بلى أجد لَقِناً غير مأمون يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحق ولا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوماً باللذة سلس القيادة للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار ليس من رعاة الدين في شيء أقرب شبهاً بالأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم بحجة لله إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا وأين اولئك؟ هم والله الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدرا، بهم يحفظ الله حججه وبيناته حتى يُودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم العلم بهم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين فاستلانوا ما استخشن المترفون، وآنسوا ما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالرفيق الأعلى، يا كُميل أولئك خلفاء الله في الأرض والدعاة إلى دينه آه آه شوقاً إليهم انصرف يا كُميل إذا شئت.

قال الشاعر الحصيف:

تعلم فليس المرء يولد عالمــاً         وليس أخو علم كمن هو جاهل

وقال آخر:

تعلم فليس المرء يُخلق عالمـاً          وما عالمٌ آمراً كمن هو جاهـل

وقال آخر:

ولم أرى فرعـا طال إلأ بأصله         ولم أرَ بـــدء العلم إلا تعلما

وقال آخر:

العلم يحي قلــــوب الميِّتينَ كما           تحيا البـلادُ إذا ما مسَّــها المطرُ

والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه            كمــا يجلِّي سـواد الظلمة القمرُ

إدريس بلول

 

 

في محراب الإمـام

يروى أنه لما مات أمير المؤمنين أبوبكر الصديق وبايع الناس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أتاه رجل من شباب اليهود، وهو في المسجد والناس حوله، فقال: يا أمير المؤمنين دُلَّني على أعلمكم بالله وبرسوله وبكتابه وسنته صلى الله عليه وسلم، فأومأ رضوان الله تعالى عليه، بيده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: هذ. فتحول الرجل إلى علي وسأله: أنت كذلك؟ قال: نعم، فقال الرجل: اني أريد أن أسألك عن أشياء، فقال علي: أخبرني إن أجبتك بالصواب والحق تعرف ذلك. ولما أجابه الشاب بأن أباه كان من علماء اليهود، قال علي: والله الذي لا إله إلا هو لئن أجبتك بالحق والصواب لتُسلِمنَّ ولتدَعَنَ اليهودية، فحلف له الشاب اليهودي. فقال له علي: يا يهودي سل ما بدا لك أخبر به إن شاء الله. قال اليهودي: أخبرني عن أول شجرة وضعت على وجه الأرض. وأول عين نبعت في الأرض وأول حجر وضع على وجه الأرض. فقال علي: أما قولك أول شجرة وضعت على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنها الزيتونة، وكذبوا أنها النخلة العجوز، هبط بها آدم من الجنة فغرسه. وأصل الثمر كله منها، وأما قولك أول عين نبعت في الأرض فإن اليهود يزعمون أنها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر، وكذبوا، هي العين التي أتاها موسى وفتاة فغسلا منها السمكة فحييت، وليس من ميت يصيبه ذلك الماء إلا حيي، وأما قولك أول حجر وضع على وجه الأرض فتزعم اليهود أنه الحجر الذي ببيت المقدس وكذبوا إنما هو الحجر الأسود هبط به آدم من الجنة فوضعه على الركن فالمسلمون يستلمونه.

ثم قال اليهودي: أخبرني أين منزل محمد في الجنة ؟ قال علي (: أما قولك أين منزل محمد في الجنة ففي أفضلها وأشرفها، جنة عدن. فقال الفتى اليهودي: أصبت والله الذي لا إله إلا هو وإن هذا لمكتوب عندنا بإملاء موسى وخط هارون بيده. ثم قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.

اجابته كرم الله وجهه عمن لا أب له، ولا عشيرة له،
 ولا قبلة له، وعن قبر سار بصاحبه

سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن لا قبلة له، فقال: أما من لا أب له فعيسى بن مريم عليه السلام، وأما من لا عشيرة له فآدم عليه السلام، وأما من لا قبلة له فالكعبة هي قبلةٌ ولا قبلة له. وسئل كرم الله وجهه، عن قبر سار بصاحبه قال: ذلك يونس عليه السلام إذ سجنه الله في بطن الحوت.

إجابته عن رجل نذر أن يصوم حينا

كما سئل رضوان الله عليه عن رجل نذر أن يصوم حيناً ولم يعين وقتاً بعينه. فقال: هذا الرجل يصوم ستة أشهر وتلا قوله عزَّ وجل: {تؤتي أكلها كلها حين بإذن ربها} وذلك في ستة أشهر.

 

شـراب الـوصـل

إني رأيتُ وقلـتُ يا قومـي أرى         وليَ الفخارُ ومكَّتي أُمُّ القــُرى

وَمَدينتـي أُمُّ المَدائـنِ كلّــِها          ومليكُـها جــدِّي أمانٌ للورى

يشير الشيخ رضي الله عنه إلى ما يراه من التجليات الإلهية وهذه أشياء لا يفهمها الناس بالسماع ولا يطَّلع عليها إلا صاحب البيت الذي وضع الله في سراج بصيرته من الهداية زيت، كما قال الشيخ النابلسي في شرح بيت ابن الفارض:

فسمعتُ ما لم تسمعي ونظرتُ ما        لم تنظري فعَرَفْتُ ما لَم تعرفي

وأما قولُه ومكَّتي أُمُّ القرى فمكَّةُ بها أول بيتِ وضع للناس قال تعالى إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدَىً لِلْعالَمِين وقال الإمام السيوطي رضي الله عنه وكان موضع الكعبة خشفة على الماء تُرى ومنها دُحيت الأرض فلذلك سُمِّيَت أُمَّ القرى.

أما المدينة فهي روح الكون وبها أفضل بقعة في الكون وصفها الإمام السيوطي فقال بها البقعة المعظمة المكرَّمة الزكية الذكية، الزاهرة الطاهرة، الشريفة المنيفة، الطيبة المطيَّبة،التي ضمَّت جسدَه الأعظم وخُلق منها بدنُه الأكرم، فإنها أفضلُ البقاع من غير خُلفٍ ولا نِزاع بل هي أفضل من الكعبة ومُقدَّمة عليها في الرتبة بل نقل السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها أفضلُ من العرشِ العظيم. وبهذا استدلوا على أنَّ الملكَ الجبَّار منزَّهٌ عن الحلول والاستقرار.

أما قوله (أمانٌ للورى) فقد رويَ عن الإمام علي كرَّم الله وجهه قولَه أنزلَ عليكم أمانان وقد رُفعَ أحدُهما وبقي الآخر، أما الأمان الذي رُفِعَ فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأمان الذي بقي فالاستغفار ثم تلا قوله تعالى {وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبهم وَأنْتَ فِيْهِمْ وما كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهم وهُم يستَغْفِرون} وجاء في صحيح مسلم ولا يُريدُ أحدٌ أهلَ المدينةِ بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص وفي صحيح البخاري لا يكيدُ أهل المدينة أحدٌ إلا انماعَ كما ينماع الملحُ في الماء وهي أمانٌ لأهلها من أن يدخلَها الدجَّال وفي حديث جابر رضي الله عنه: نعمتِ الأرضُ المدينةُ إذا خرج الدجال، كانَ على كلِّ نقب من أنقابها ملك لا يدخلُها، فإذا كانَ ذلك رجفت المدينةُ بأهلها ثلاثَ رجفات لا يبقى منافقٌ ولا منافقة إلا خرجوا إليه. ومن مات بها استحق الشفاعةَ وجاء في سنن البيهقي من استطاعَ أن يموت بالمدينة فليمت فمن ماتَ بالمدينة كنتُ له شفيعاً وشهيدا ومنه جاء قوله أمانٌ للورى.

د. عبد الله محمد أحمد