�
ولا تقل باتحـاد
القلــوب أوعية فـإذا طاب
الوعـاء طاب ما قد حصلـه
قلبٌ يذكر الله أضحى روضه وآخر باللهو صــار مزبله
ما منبتُ الـود كمنبتِ غيرِه ولا سنا المسك كريح البصله
لو أسقى الحنظل شهداً دائماً ما نبت الحنظل إلا حنظلـه
قبل أن نتحدث عن الحلول والاتحاد رأينا أن نلقي بعض الضوء عن القلب
وأهميته، فالقلب هو بيت الله في الإنسان ومدار الأمر على أعمال القلوب فهو كالراعي
إذا صلُح صلحت الرعية. وإذا فسد فسدت الرعية وذلك لأن أعمال القلوب أصل لأعمال
الجوارح وأعمال الجوارح فرع منها وتابعة له. وقد أفصح لنا سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة بقوله الجامع: (ألا إن في الجسد مضغة لو صلُحت صلُح
الجسد كله ولو فسدت فسد الجسد كله).
فصلاح العمل الظاهر متوقف على صلاح القلب. والقلب من كونه لطيفة
ربانية يتأثر بأي شيء وينطبع فيه أي شيء تظهر فيه صور الأكوان يتأثر بالمعصية وهي
ظلمة ويتأثر بالطاعة وهي نور والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا أذنب
العبد ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإذا زاد زيدت)، وهذا ما أخبر عنه الحق
سبحانه وتعالى بقوله: {كلا بلْ ران على قلوبهم}، فهذا الران أصبح حجاباً يمنع ظهور
العلوم والحقائق الإلهية. ولا بد من إزالته. فالقلب خلقه الله لنفسه لا لغيره قال
سيدنا داؤد عليه السلام: (يا رب لكل ملك خزانة فما خزانتك، قال: خزانة أعظم من
العرش وأوسع من الكرسي وأطيب من الجنة وأنور من الشمس وهي قلب المؤمن)
وقال العلماء القلب له وجهان ظاهر وباطن. الوجه الظاهر ترابي أرضي،
الوجه الباطن سماوي علوي نوراني ظاهره كثيف وباطنه لطيف. ظاهره لمباشرة الدم
وباطنه لمواجهة الأنوار. ونشهد به الأسرار ونشهد به عالم الغيب فهو كالمرآة فكما أن
المرآة وهي صغيرة الحجم لا يظهر فيها إلا من كان محازياً لها فإذا توجه القلب إلى
الحق وكان محازياً للحق ظهرت فيه الأنوار وانطبقت فيه العلوم الإلهية على وجه
الانعكاس.
وإذا انحرف القلب إلى الدنيا أو إلى غير الله ظهر فيه الحال والشهوات
والحسد والحقد والكِبر وغير ذلك والقلب الذي عناه الحق وأشار إليه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ليس هذا القلب المتعارف عليه ولكنه عبارة عن لطيفة
ربانية لا ترى.
ويقول الشيخ يحيى بن معاذ حشوها جوهرة ربانية. والحديث المتواتر على
ألسنة الصوفية وقيل (إن في الجسد مضغة وفي المضغة قلب وفي القلب فؤاد وفي الفؤاد
روح وفي الروح سر وفي السر خفي وفي الخفي نور وفي النور أنا) سبحانك ربي لا شريك
لك.
فالقلب سر إلهي. والحقائق تنطبع فيه على وجه الإنعكاس دون حلول أو
اتحاد فمثلاً لو رأينا القمر مثلاً في النهر وهو في أفق السماء. هل حلّ القمر في
النهر لا لم يحلَّ فيه. هل اتصل اتصالاً مباشراً بالنهر لا لم يتصل به. هل انفصل عن
النهر بالطبع
لا.
ولذلك يقول العلماء: فلا هو في وصلٍ بمتصل ولا بمنفصل عني وما قدر
مثلي أن يحيط بمثله وأين الثرى من طلعة البدر، إنما أشاهده في صفو سري. فاجتلى
كمالاً تعالى عزه أن يقسما كما أن بدر التمِّ يظهر وجهه بصفحة الغدير وهو في أفق
السماء.
فلا وصل ولا فصل ولا حلول ولا اتحاد وإنما هي تهمة باطلة لا تستند
لنص صريح، وعلماء الأمة منزَّهون عن هذه الاتهامات فمن فهم هذه الإشارة
فليصُنها ويجب على كل إنسان أن ينظر إلى قلبه أولاً فربما يكون فيه إعوجاج.
�محمد
رشاد حسين
فضيلة العلم
قال كُميل النخعي وهو فيمن حضر زمان سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه قال: جاءني سيدي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخرج بي إلى ناحية
الجنانة، فلما أسحر تنفس الصعداء، ثم قال: يا كُميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها
أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة عالمٌ رباني ومتعلِّم على سبيل النجاة
وهمج رعاع اتباع كل ناعق، مع كل ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى
ركن وثيق، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على
الإنفاق ومنفعة المال تزول بزواله، يا كُميل مات خُزان المال وهم أحياء والعلماء
باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، ها هنا لعلوماً
جمة (وأشار بأصبعه إلى صدره) لو وجدت حملة، بلى أجد لَقِناً غير مأمون يستعمل آلة
الدين للدنيا، ويستظهر بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة
الحق ولا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة لا إلى هؤلاء
ولا إلى هؤلاء، أو منهوماً باللذة سلس القيادة للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار
ليس من رعاة الدين في شيء أقرب شبهاً بالأنعام السائمة كذلك يموت العلم بموت
حامليه، اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم بحجة لله إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً
مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا وأين اولئك؟ هم والله الأقلون عدداً
والأعظمون عند الله قدرا، بهم يحفظ الله حججه وبيناته حتى يُودعوها نظراءهم
ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم العلم بهم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين
فاستلانوا ما استخشن المترفون، وآنسوا ما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا
بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالرفيق الأعلى، يا كُميل أولئك خلفاء الله في الأرض
والدعاة إلى دينه آه آه شوقاً إليهم انصرف يا كُميل إذا شئت.
قال الشاعر الحصيف:
تعلم فليس المرء يولد عالمــاً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وقال آخر:
تعلم فليس المرء يُخلق عالمـاً
وما عالمٌ آمراً كمن هو جاهـل
وقال آخر:
ولم أرى فرعـا طال إلأ بأصله
ولم أرَ بـــدء العلم إلا تعلما
وقال آخر:
العلم يحي قلــــوب الميِّتينَ كما
تحيا البـلادُ إذا ما مسَّــها المطرُ
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه
كمــا يجلِّي سـواد الظلمة القمرُ
إدريس بلول
|