الـتـصـوف
يظن بعض الناس - أو يزعمون - أن التصوف شيء مستحدث، وهذا بالطبع قصر
باع في فهمهم فإن التصوف هو لب الدين وأن الصوفية هم أصلاً أهل الله جلَّ وعلا
وخاصته من خلقه، بمعنى أهل الاشتغال به عزّ وجل وإن جاءت التسمية متأخرة فإن
الجوهر باقٍ لأن جوهر التصوف ممتد منذ عهد حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في
أمته بل إنه متسلسل في العابدين منذ بدء الخليقة وأوضح المولى تبارك وتعالى أن
أولهم هو نبينا حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجل: {قل إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين}. وإن كانت هذه الآية يستدل بها في ثبوت أقدمية النبي
صلى الله عليه وسلم وأسبقية نوره الذي يؤيده الحديث الشريف وسنتعرض لذلك في مقال
آخر لاحقا.
وعلى ذلك فإن التصوف هو أصل الدين كما هو معلوم عند أهله الذين
يعيشونه واقعاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إذ إن غاية المؤمن أن يكون عابداً
ذاكراً شاكراً مستقيماً على ذلك، وهذا لا يتأتى له إلا إذا صحب شيخاً عارفاً
بالمسالك ليقيه في طريقه المهالك كما قال الشيخ ابن عاشر الأنصاري. وكما قال
مولانا الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله تبارك وتعالى عليه في إحدى قصائده:
فاتبعني يا مريدي������ أهدك العلم السويا
فالمطلوب إذن أن يسير المريد على النهج الصوفي الصحيح الذي يُعرِّف
الدين بأنه ثلاث مراتب وفقاً لما جاء في الحديث النبوي الشريف عن سيدنا أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بأنه ثلاث مراتب هي الإسلام والإيمان
والإحسان ويوضحها السادة الصوفية رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هي علوم الشريعة
والطريقة والحقيقة ويرمز إليها في القرآن الكريم بعلم اليقين وعين اليقين وحق
اليقين.
وللدليل على أن كل مرتبة منها علم قائماً بذاته يقول المولى تبارك وتعالى:
{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} ويقول
عزّ وجل في آية أخرى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا
وأحسنوا } ولما كان المطلوب من الجن والإنس عبادة الله وحده بدليل قوله تبارك
وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، كان لا بد لهم من امتثال الأمر وطاعة
الخالق ولكن الكيفية التي يعبدون بها في تفصيل المراتب ينبغي لهم ان يأخذوها من
معلم يعلمهم. ومن شفافية التصوف أن يعلم الذاكر الساري جميع ما يلزمه من العلوم
والأسرار في كل مرتبة من المراتب وعليه فقد طلب المولى عزّ وجل من المريدين أن
يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين وليس هناك أصدق من الصوفية رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين. وبما أن كل شيء مبني على العلم وأن العلم كما أوضح ساداتنا الصوفية رضوان
الله تعالى عليهم أجمعين في باطن العرش أن الاسم الرحمن مستوٍ على العرش فلا بد من
أخذ العلم من الرحمن، ولكن كيف الوصول إليه ! يقول المولى جلَّ وعلا {الرحمن فاسأل
به خبيرا}. هنا لا بد من الخبير إذ أنه لا بد لكل سالك من مرشد يأخذ بيده ويعلمه
ويوجهه فالمولى تبارك وتعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإذا ظفر
بالشيخ المرشد الواصل واطمأن له فقد وجد ضالته المنشودة فليلق له القياد ويكون بيد
يديه كالميت بين يدي الغاسل، يغسله ويُطيِّبه ويُلبسه الجديد، يهيِّئه للقاء الله
تعالى وهذا غاية الإكرام.
مجذوب الحاج حمد
الـتعـاون
لقد خُلق الإنسان ضعيفاً بنفسه قوياً بربه، وبالتعاون مع أبناء جنسه،
فما يستطع وحده أن يضطلع بأعباء هذه الحياة ولا أن يقضي مطالب العيش ولبانات النفس
التي لا تنتهي آمالها من أجل هذا وضعت له حكمة السماء في نظام دستور عيشه، هذا
العنصر الأساسي العجب، عنصر الازدواج والمشاركة، يستعين به على اقتحام الصعاب
وتذليل العقبات فهذا سيدنا آدم عليه السلام وهو الإنسان الأول وأبو الخلق جميعاً لم
يكن في وسعه أن يضطلع بأعباء العيش وحده وقد خلق الله له برحمته خلقاً لطيفاً
أليفاً تجلَّى له في شخص أمنا حواء التي جعلها زوجاً وشريكة تؤنسه في وحدته وتعينه
على أمره.
فالإنسان منذ وطئت قدماه الأرض يشعر بالحاجة الماسة إلى من يقف بجانبه،
فالتعاون الذي يحس الإنسان بحاجته إليه يكون في مبتكرات المدنية والحضارة بل هو أمر
طبيعي صحب الإنسان منذ نشأته، تدفعه إليه الحاجة المشتركة الملحة من الحرص على دفع
الشر عن نفسه والرغبة في جلب الخير له.
ولكي يتجلى التعاون المثالي في اطاره الرائع السماوي حددت رسالات
السماء أهدافه وفصلت شرائعها أنواعه فنزل قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى...}
فالتعاون على طاعة الله وبر الناس طاعة ولن يكون التعاون تعاوناً إلا إذا هدف إلى
تحقيق هذا الهدف الأسمى وانتظم في سلكه عقد الحكمة القائلة: الفرد للمجموع
والمجموع للفرد. فجنت منه الإنسانية أفراداً وجماعات أطيب الثمرات.
والتعاون المبارك المثمر هو الذي رسم خطاه على هدى من الدين وضوء كاشف
من الخلق الكريم فمشى بين الناس هدياً صادقا، ومثلاً رائعاً في حراسة سماوية من
زيف واستغلال المستغلين، إن اللبنات الأولى التي يؤسس عليها بنيان التعاون الحق
يحتويها جميعها خلق كريم يدعو صاحبه إلى عمل الخير وينهاه عن الشر حتى يحب لأخيه
ما يحب لنفسه، ويسعى جاهزاً لتوفير الجهد وتوحيد الصف واجتماع الكلمة وتوفير الثقة
واستتباب الأمن والنظام. وإذا أدركنا هذا كله لانجاح الحركة التعاونية أدركنا في
سهولة ويسر مدى ما يؤديه الدين من مساعدات لهذه الحركة التعاونية فلقد جاءت
الديانات كلها لتنظيم العلاقة بين الناس على أساس من التعاون، وتقديم الخير وتبادل
المنفعة. وفي هذا يقول تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وثمرة التعارف التعاون وفي هذا
المقام يقول رسول الله عليه صلوات الله وسلامه عليه (خير الناس أنفعهم للناس).
إن التعاون الحق قد استصفى روحه ومبادئه من الأديان التي تجمعت محاسنها
كلها في خير دين، دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده رب العالمين فهذه مدرسة الصلاة
تنتظم طلابها صفاً صفاً لتعلمهم بدروسها السماوية ألا يسلم لغير مولاه، وسر هذا
يتجلى في هذا البنيان المرصوص وهذه مدرسة الحج الكبرى تربط بين قلوب هؤلاء الطلاب
برباط روحاني سماوي لا تستطيع يد الزمن له حلاً ولا يسع هذا الجمع الجميع إلا أن
يؤمنوا بأن لهم وطناً واحداً أعز عليهم من كل الأوطان هو وطن الدين.
هادية الشلالي
وَلِي
نَظْمُ دُرٍ
الإنسان الكامل
الحمد لله خَصَّ حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأكرم وأعظم الصفاتِ
خَلْقاً وخُلْقاً حتى عُرفَ بالإنسانِ الكامل وَصلِّ اللهمَّ على الكريم الرحيم
الإمام العظيم وآله وصحبه وسلم تسليم.
تتعددُ صفات البشر وتتنوع، فمنهم سيِّد قومه، ومنهم الكريم الجواد،
ومنهم الرحيم، ومنهم الإمام، ومنهم العظيم إلى غيرذلك مما لا يحصره العد وتختلف
تلك الصفات من إنسان لآخر كماً وكيفاً ويتفاوت الناس - أيضاً - في اتصافهم بتلك،
أي أن اتصاف أحد من البشر بكل الصفات وبأعلى درجاتها محال، بل عدُّوا من يبالغ في
العطاء - مثلاً - من ذوي النقص والعيب وقالوا بملء أفواههم - اعترافاً - باستحالة
كمال البشر:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المـرءِ نُبلاً أن تُعدَّ معايبُه
وهذه مشيئة الله في خلقه أن جعلهم ناقصي الخُلق إلا حبيبه المصطفى صلى
الله عليه وسلم، فهو الإنسان الكامل روحاً وجسداً لفظاً ومعنى كماً وكيفاً ويكفي
قوله تعالى فيه على الإجمال: {وإنك لعلي خُلقٍ عظيم}����� . ويرون أنَّ تفضيل ما يتصف به صلى الله عليه وسلم محال يقول
الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني:
وجزيـلٌ عطـــاءكم وسخـــيٌ وبلـوغ الكمـالُ فيــك محــال
ويقول الإمام البوصيري:
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرفٍ وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن قـدرَ رسـولِ الله ليس له حدٌ فيعـربُ عنهُ ناطِــقٌ بفـــم
وبالتالي أصبح غير مجد انتقاص قدر النبي صلى الله عليه وسلم مما فضله
الله به على العالمين. قال الشاعر:
ومن عُصِبتْ عَينــاهُ فالوقتُ كلَّه لديهِ وإن لاحَ الصبــاحُ غـروبُ
يقول الشيخ محمد عثمان عبده نظماً في المصطفى صلى الله عليه وسلم:
وكريمــاً ورحمـةً وإمامـــاً وعظيمـاً وليـس فيـك يقــال
يتناول الشيخ في نظمه ما يتصف به النبي صلى الله عليه وسلم من صفات
جليلة في أكمل صورها، فقد أتى نكرات (كريما، رحمة، إماما، عظيماً) ليبين كمالها
وليبين بها أنها أحوالٌ ملازمة له بدليل أن هذا النظم مرتبط بما سبقه وهو قوله:
ســيداً لم تزل وغيرُك زالــوا وجميعـاً إلى جنابِـك آلــــوا
فإذا تأملنا تلك المعاني بشيءٍ من التفصيل تتضح لنا ملامح من الصورة
الخُلقية للإنسان الكامل، فهو كريم ولا يزال كريماً ينساب العطا من كفِّه بلا كم
ولا كيفية وهو رحمة ولا يزال رحمة بل إن الأمَّهات به اقتدت {وما أرسلناك إلا
رحمةً للعالمين} وهو إمامنا المصطفى ولا يزال إماماً بل للأئمة سيداً وهو عظيم
الجناب ولا يزال عظيم. ولنتفحص معاً - أخي الكريم - بكل دِقة نظم درره ولنأت قوله
(وليس فيك يقال) ولعله قد تبادر إلى ذهنك - الآن - كثير من المعاني، ولعل منها: أن
الشيخ وهو يلبس ثوب الأدب وكأنه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبا: لا
يُقال - يا رسول الله - إنك سيد وكريم ورحمة وإمام وعظيم بالرغم من اتصافك بتلك
الصفات وإنما هم يقولونها وينسبونها لمن لا يتصفون بها وكان أجدر أن يمدحوك به.
ولعل من المعاني - أيضاً - أن الشيخ وكأنه يخاطب الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم بقول: لا يُقال أنك سيد وكريم ورحمة وإمام وعظيم، أي أن المدح فيك
لا يمكن أن يحد بحدود الألفاظ وهي أوعية تضييق المعنى.
ولعل لأهل البلاغة والإعجاز أمثال عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغيين
وصاحب نظرية النظم - تفسير لتلك العبارة (ليس فيك يُقال)، فإن تقديم الجار والمجرور
(فيك) مع وجود النفي (ليس) ما يفيد إثبات وقوع الفعل وهو القول وتخصيص وقوعه على
غير المخاطب أي أن القول وإن كان حسناً وكذا القيل وهو كل قبيح إنما يقال ولكن ليس
فيه صلى الله عليه وسلم، فمحال أن يتصف النبي صلى الله عليه وسلم بما يشين.
يقول الجمحي في مدحه:
عقم النســــاء فلن يلدن مثيلـه إنَّ النســـاء بمثله عقـــــم
وفي قوله (يُقال) حذف لمفعول القول وغرضه من ذلك التعميم أي لا يستطاع
القول الحسن فيه إذ أن بلوغ الكمال فيه محال:
لا يستطيع القول فيــكم أن يفــي إن البحـــار لذكركــم لمــداد
وقد تكفي الألفاظ - رغم عجزها - مدح زيد أو عمرو ولكنها تعجز دوماً عن
مدح الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وسلم
د. الوسيلة إبراهيم محمد درار
بيـن الرجـاء والـتـمني
نسمع كثيراً من الناس يستهينون بالمعاصي ويدّعون أنهم قد أحسنوا الظن
بالله تعالى جرأةً على الله عزَّ وجلَّ واستهانة بأحكامه الواجبة على كلِّ مخلوق.وقد
ضرب الله المثل ببني إسرائيل على الجرأة على الله تعالى {وقالوا لن تمسنا النار
إلا أياماً معدودة} استهانة بعذاب الله وتهويناً لمعصية الله ومخالفة أمره. ويلازم
هذا الاعتقاد تواكل الناس وفتور الهمة في محاربة المنكرات والتلذذ بالمعاصي مع أن
النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بأن بعض المعاصي تذهب الإيمان كالزنا وشرب الخمر
قال صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا شرب الخمر شاربها
حين يشرب وهو مؤمن). وفي حديث آخر (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من
بات شبعان وجاره جائع). بينما قال عزَّ وجلَّ في حق المؤمنين {والذينَ إذا فعلوا
فاحشةً أو ظلموا أنفسَهم ذكروا الَله فاستغفرُوا لذنوبِهم ومن يغفرُ الذنوب إلا
الله. ولم يُصرِّوا على ما فعَلُوا وهم يعلمون. أُولئكَ جزاؤهُم مغفرةً من ربِّهم
وجناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ونعمَ أجرُ العاملين}.
وقال الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله عنه:
وهَيِّناتٌ ذنوبُ الحِبِّ إنْ عظُمَتْ ما لمْ يكنْ فعلُه يُؤتى بإصــرارِ
فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فالذي يتخلق بهذا الُخلق الذي
يدل على ضعف الوازع من المسلمين فهو على خُلق من خُلق اليهود الذين ضرب الله عزَّ
وجلَّ بهم المثل.
صديق أبو هريرة
|