|
من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني -
43 |
وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل
عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر حيث كان) وهذا مثل ما صح في حق علي
رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (وأدر الحق معه حيث دار) وهو حديث
صحيح رواه كثيرمن أصحاب السنن، فكل من عمر وعلي رضي الله عنهما يكون الحق معه حيث
كان، وهذان الحديثان من جملة الأدلة التي استدل بها أهل السنة على صحة خلافة
الخلفاء الأربعة، لأن علياً رضي الله عنه كان مع الخلفاء الثلاثة قبله لم ينازعهم
في الخلافة، فلما جاءت الخلافة له ونازعه غيره قاتله، ومن الأدلة الدالة على أن
توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه حجة على جواز التوسل لقوله صلى الله
عليه وسلم (لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه الإمام أحمد وغيره عن عقبة بن عامر
وغيره، وروى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود من
تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) وإنما استسقى عمر رضي الله عنه
بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، ليبين للناس أن
الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم جائز ومشروع لا حرج فيه، لأن الاستسقاء
بالنبي صلى الله عليه وسلم كان معلوماً عندهم فلربما يتوهم بعض الناس أنه لا يجوز
الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر رضي الله عنه الجواز، ولو
استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم لأفهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره صلى الله عليه
وسلم، ولا يصح أن يقال إنما استسقى بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم،
لأن الاستسقاء إنما يكون بالحي، لأن هذا القول باطل مردود بأدلة كثيرة- منها توسل
الصحابة به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما تقدم في القصة التي رواها عثمان بن
حنيف وكما في حديث بلال بن الحارث المتقدم، وكما في توسل آدم الذي رواه عمر رضي
الله عنه كما
تقدم فكيف يعتقد عدم صحته بعد وفاته، وقد روى التوسل به قبل وجوده مع أنه
صلى الله عليه وسلم حي في قبره.
فتلخص من هذا أنه يصح التوسل به صلى الله عليه
وسلم قبل وجوده في حياته وبعد وفاته، وأنه يصح التوسل أيضاً بغيره من الأخيار كما
فعله عمر رضي الله عنه حين استسقى بالعباس رضي الله عنه، وذلك من أنواع التوسل كما
تقدم، وإنما خص عمر العباس رضي الله عنهما من سائر الصحابة لإظهار شرف أهل بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولبيان أنه يجوز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإن
علياً رضي الله عنه كان موجوداً وهو أفضل من العباس رضي الله عنه.
قال بعض العارفين، وفي توسل عمر بالعباس رضي
الله عنهما دون النبي صلى الله عليه وسلم نكتة أخرى زيادة على ما تقدم، وهي شفقة
عمر رضي الله على الضعفاء المؤمنين وعوامهم، فإنه لو استسقى بالنبي صلى الله عليه
وسلم لربما تتأخر الإجابة لأنها معلقة بإرادة الله ومشيئته، فإذا تأخرت الإجابة
ربما يقع وسوسة واضطراب لمن كان ضعيف الإيمان بسبب تأخير الإجابة، بخلاف ما إذا
التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا تأخرت الإجابة لا تحصل تلك الوسوسة
والاضطراب.
والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة
التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من
الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث السابقة فإنا معاشر
أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا ضراً
إلا لله وحده لا شريك له فلا نعتقد
تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الخلق والإيجاد
والتأثير ولا لغيره من الأحياء أو الأموات فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه
وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامة عليه وعليهم أجمعين، وكذا
بالأولياء والصالحين لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتاً لأنهم لا يخلقون شيئاً وليس
لهم تأثير في شيء وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى، والخلق والإيجاد
والتأثير لله وحده لا شريك له.
وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم
يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول ﴿الله خالق كل شيء﴾ ﴿والله خلقكم
وما تعملون﴾ فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات، هم الذين دخل الشرك في
توحيدهم، لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات، فهم الذين اعتقدوا تأثير غير
الله تعالى فكيف يدعون المحافظة على التوحيد، وينسبون غيرهم إلى الإشراك ﴿سبحانك
هذا بهتان عظيم﴾ فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب
المؤمنين إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم
سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فالمؤثر والموجود حقيقة هوالله تعالى وهؤلاء سبب عادي
في ذلك لا تأثير لهم، وذلك مثل السبب العادي فإنه لا تأثير له وحياة الأنبياء في
قبورهم ثابتة بأدلة كثيرة استدل بها أهل السنة وكذا حياة الشهداء والأولياء وليس
هذا محل بسط الكلام عليها وشبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة
يتوسعون في الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالي
ويطلبون من الصالحين أحياء وأمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله
تعالى ويقولون للولي افعل لي كذا وكذا وربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا
بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالاً
ومقامات ليسوا بأهل لها، ولم يوجد فيهم شيء منها، فإنما أراد هؤلاء المانعين للتوسل
أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعاً للإيهام وسداً للذريعة وإن كانوا يعلمون أن
العامة لا تعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله تعالى، ولا تقصد بالتوسل إلا
التبرك ولو أسندوا للأولياء شيئاً لا يعتقدون فيهم تأثير. فنقول لهم- إذا كان الأمر
كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة، عالمهم وجاهلهم، خاصهم
وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة
من الألفاظ الموهمة وتأمروهم سلوك الأدب في التوسل مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن
حملها على الإسناد المجازي مجازاً عقلياً كما يحمل على ذلك قول القائل، هذا الطعام
أشبعني وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء أو الطبيب نفعني، فإن ذلك كله عند أهل السنة
محمول على المجاز العقلي فإن الطعام لا يشبع، والمشبع هو الله تعالى والطعام سبب
عادي لا تأثير له وكذا ما بعده، فالمسلم الموحد متى صدر منه إسناد الشيء لغير من هو
له يجب حمله على المجاز العقلي، وإسلامه وتوحيده قرينة على ذلك ما نص على ذلك علماء
المعاني في كتبهم وأجمعوا عليه.
وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته
في الأحاديث الصحيحة وصدوره من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة
وخلفها، فهؤلاء المنكرون التوسل المانعون منه- منهم من يجعله حراماً، ومنهم من
يجعله كفراً وإشراكاً، وكل ذلك باطل لأنه يؤدي إلى اجتماع معظم الأمة على الحرام
والاشراك لأن من تتبع كلام الصحابة والعلماء من السلف والخلف يجد التوسل صادراً
منهم بل ومن كل مؤمن في أوقات كثيرة واجتماع أكثرهم على الحرام أو الإشراك لا يجوز
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح- (لا تجتمع أمتي على ضلالة). بل قال
بعضهم إنه حديث متواتر، وقال تعالى ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ فكيف تجتمع كلها أو
أكثرها على ضلالة، وهي خير أمة أخرجت للناس فاللائق بهؤلاء المنكرين إذا أرادوا سد
الذريعة ومنع الألفاظ الموهمة كما زعموا أن يقولوا- ينبغي أن يكون التوسل بالأدب
وبالألفاظ التي ليس فيها إيهام، كأن يقول المتوسل- اللهم إني أسألك وأتوسل إليك
بنبيك صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء قبله وبعبادك الصالحين أن تفعل بي كذا وكذا،
لا أنهم يمنعون التوسل مطلقاً ولا أن يتجاسروا على تكفير المسلمين الموحدين الذين
لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده لا شريك له ومما تمسك به هؤلاء المنكرون للتوسل
قوله تعالى ﴿لا تجعلوا دعاءالرسول بينكم كدعاء بعضكم بعض﴾ فإن الله نهى المؤمنين في
هذه الآية أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما يخاطب بعضهم بعضاً- كأن
ينادوه باسمه، وقياساً على ذلك لا ينبغي أن يطلب من غير الله تعالى، كالأنبياء
والصالحين الأشياء التي جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى لئلا تحصل
المساواة بين الله تعالى وخلقه بحسب الظاهر وإن كان الطلب من الله تعالى على سبيل
التأثير والإيجاد من غيره على سبيل التسبب والكسب لكنه ربما يوهم تأثير غير الله
تعالى فمنع من ذلك الطلب لدفع هذا الإيهام. والجواب أن هذا لا يقتضي المنع من
التوسل مطلقاً ولا يقتضي منع الطلب إذا صدر من موحد فإنه يحمل على المجاز العقلي
بقرينة صدوره من موحد فما وجه كونه حراماً أو شركاً؟ فلوا قالوا إنه خلاف الأدب
وأجازوا التوسل وشرطوا فيه أن يكون بالأدب والاحتراز عن الألفاظ الموهمة لكان له
وجه، فالمنع مطلقاً لا وجه له.
السابق
التالي
|