أذهبتم طيباتكم

إن الله عز وجل قد ولانى أمركم وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم، وإنى أسأل الله تعالى أن يعيننى عليه، وأن يحرسنى عنه كما حرسنى عند غيره، وأن يلهمنى العدل فى قسمكم كالذى أمر به، وإنى امرؤ مسلم، وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذى وليت من خلافتكم من خلقى شيئا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شىء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر تغير منذ ولى، أعقل الحق من نفسى وأتقدم، وأبين لكم أمرى، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا فى خلق فليأتنى فإنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله فى سركم وعلانيتكم وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلى، فإنه ليس بينى وبين أحد من الناس هوادة وأنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عتبكم، وأنتم أناس عامتكم حضر فى بلاد الله، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء به إليه، وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كثيرة، وأنا مسئول عن أمانتى، وما أنا فيه مطلع على ما بحضرتى بنفسى إن شاء لا أكله إلى أحد.. هكذا بدأ سيدنا عمر بن الخطاب خلافته ولقد أشفق المسلمون من حالة سيدنا عمر رضى الله عنه وتوسلوا إلى السيدة حفصة ابنته أن ترجوه ليطعم طعاما ألين ويلبس لباسا ألين، وقالوا لها: فليبسط فى هذا الفىء فيما شاء منه وهو فى حل من جماعة المسلمين، لكنه أبى إلا التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة حسنة للولاة والحكام والناس عموما فى دينهم ودنياهم، ومثالا للعفة والنزاهة والإخلاص، وهاك مثلا ظريفا لعفته رضى الله عنه: فقد كان يتجر وهو خليفة فجهز عيرا إلى الشام، فبعث إلى رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يستقرضه أربعة آلاف درهم، فقال الرجل لرسول سيدنا عمر رضى الله عنه: قل له ليأخذها من بيت المال، ثم يردها، فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال، شق ذلك عليه، فلقيه سيدنا عمر رضى الله عنه فقال: أنت القائل ليأخذها من بيت المال فإن مت قبل أن تجىء، قلتم أخذها أمير المؤمنين، دعوها له وأؤخذ بها يوم القيامة، لا، ولكن أردت أن آخذها من رجل حريص شحيح مثلك فإن مت أخذها من مالى.

وروى عن عامر بن ربيعة قال: صحبت سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه من المدينة إلى مكة فى الحج، ثم رجعنا فما ضرب فسطاطا ولا كان له بناء يستظل به إنما كان يلقى نطعا أو كساء على شجرة فيستظل تحته.

ووفد على سيدنا عمر رضى الله عنه الربيع بن زياد الحارثى قال: لما قدمنا على أمير المؤمنين عمدت إلى غلامه يرفأ فقلت له: يا يرفأ أخبرنى أى الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة، فأخذت خفين مطارقين (مطابقين خشنين) ولبست جبة صوف وعممت رأسى بعمامة دكناء ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب فلم تأخذ عينه أحد غيرى، فدعانى فقال من أنت؟ قلت الربيع بن زياد الحارثى، قال وما تتولى من أعمالنا؟ قلت البحرين، قال وكم ترزق؟ قلت خمسة دراهم فى كل يوم، قال كثير! فما تصنع بها؟ قلت أتقوت منها شيئا وأعود بباقيها على أقاربى فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين، فقال وكم سنك؟ قلت ثلاث وأربعون سنة، قال لا بأس إرجع إلى موضعك، ثم دعا بطعام وأصحابى حديثوا عهد بلين الطعام أما أنا فقد تجوعت له فأتى بخبز يابس واكسار بعير بغير إدام، فجعل أصحابى يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد الأكل واتلذذ به فإذا به يلحظنى من دونهم فأعجبته، فقلت يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت، فرفع سيدنا عمر رضى الله عنه جريدة معه فضرب بها رأسه وقال: أما والله ما أراك أردت بها الله، وما أردت بها إلا مقاربتى، هل تدرى ما مثلى ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم؟ قال: مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشىء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: فكذلك مثلى ومثلهم، ثم قال سيدنا عمر رضى الله عنه للربيع: يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكنى رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال ﴿أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم به﴾ يا ربيع: إنى لم أستعمل عليكم عمالى ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم ولكنى أستعملهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم.

محمد صفوت جعفر

 


منى - أيام الحج