باب التوبة - 2
قال آدم صلوات الله وسلامه عليه: يا رب إنك سلطت على إبليس ولا أستطيع
أن أمتنع منه إلا بك، قال لا يولد لك ولد إلا وكلت عليه من يحفظه من مكر إبليس عليه
اللعنة ومن قرباء السوء، قال يارب زدنى؟ قال الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها والسيئة
بواحدة وأمحوها، قال يارب زدنى؟ قال التوبة مقبولة ما دامت الروح فى الجسد، قال
يارب زدنى؟ قال ﴿قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن
الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾.
|
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن وحشيا قاتل سيدنا حمزة عم النبى
صلى الله عليه وسلم كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إنى أريد أن أسلم
ولكن يمنعنى عن الإسلام آية من القرآن نزلت عليك وهى قوله تعالى ﴿والذين لا يدعون
مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك
يلق أثام﴾ وأنى قد فعلت هذه الأشياء الثلاثة فهل لى من توبة فنزلت هذه الآية ﴿إلا
من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ فكتب بذلك إلى وحشى،
فكتب إليه إن فى الآية شرطا وهو العمل الصالح ولا أدرى هل أقدر على العمل الصالح أم
لا؟ فنزل قوله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ فكتب
بذلك إلى وحشى، فكتب إليه إن فى الآية شرطا أيضا فلا أدرى أيشاء أن يغفر لى أم لا؟
فنزل قوله تعالى ﴿قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن
الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾ فكتب إلى وحشى فلم يجد فيها شرطا
فقدم المدينة وأسلم.
|
وعن محمد بن عبد الرحمن السلمى قال: حدثنا أبى قال: جلست إلى نفر من
أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال رجل منهم: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه، قال: قلت أنت سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول؟ قال نعم، فقال رجل آخر سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: من تاب قبل الغرغرة تاب الله عليه.
وعن محمد بن مطرف قال: قال الله تعالى ويح ابن آدم يذنب الذنب
فيستغفرنى فاغفر له ثم يعود فيستغفرنى فاغفر له، ويحه لا هو يترك ذنبه ولا ييأس من
رحمتى، أشهدكم يا ملائكتى أنى قد غفرت له.
وعن الأعمش عن رجل عن مغيث بن سمى قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل
بالمعاصى فبينما هو يسير ذات يوم إذ تفكر فيما سلف فقال: اللهم غفرانك ثلاث مرات،
فأدركه الموت على تلك الحالة فغفر الله له.
وعن مكحول قال: بلغنى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلى
ملكوت السموات أبصر عبدا يزنى فدعا عليه فأهلكه الله تعالى، ثم رأى عبدا يسرق فدعا
عليه فأهـلكه الله تعالى، فقال الله تعالى يا إبراهيم دع عنك عبادى، فإن عبدى بين
ثلاث خصال بين أن يتوب فأتـوب عليه، وبين أن أستخرج له ذرية تعبدنى، وبين أن يغلب
عليه الشقاء فمن ورائه جهنم.
وفى هذا الخبر دليل على أن العبد إذا تاب قبل الله توبته فلا ينبغى
للعبد أن ييأس من رحمة الله تعالى فإن الله تعالى قال ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون﴾ يعنى من رحمة الله تعالى، وفى آية أخرى قال ﴿وهو الذى يقبل التوبة
عن عباده ويعفو عن السيئات﴾ فينبغى للعاقل أن يتوب إلى الله فى كل وقت ولا يكون
مصرا على الذنب فإن الراجع عن ذنبه لا يكون مصرا وإن عاد فى اليوم سبعين مرة كما
روى عن سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه
قال (ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة) وروى عن النبى صلى الله عليه
وسلم أنه قال (والله إنى لأتـوب إلى الله تعالى فى اليوم مائة مرة).
عبد المجيد إبراهيم عبد المجيد
مع المناجاة الإلـهية للسكندري
قال رضى الله عنه فى مناجاته وكلها حكم عجيبة لها فى القلوب تأثيرات
غريبة، لاسيما إذا استعملت فى الأسحار، فإنها تكسو القلوب جلابيب الأنوار.
- إلـهى أنا الفقير فى غناى فكيف لا أكون
فقيرا فى فقرى؟!
- إلـهى أنا الجاهل فى علمى فكيف لا أكون
جهولا فى جهلى؟!
يعنى أنا الفقير إليك فى الحالة التى تغنينى فيها، والجاهل فى حال علمى
فإن فقرى وجهلى من صفاتى الذاتية، والغنى والعلم من الصفات العرضية -والعارض بصدد
الزوال- فلا تتوهم أيها الناظر أن فى الجمع بين المتنافيين تكن من أهل الكمال، وقدم
المصنف هذا بين يدى دعائه ليكون أرجى للإجابة، كما قال بعضهم فى قوله تعالى ﴿ادعوا
ربكم تضرعا وخفية﴾ الأعراف، التضرع فى الدعاء أن تقدم إليه افتقارك وعجزك، لا أن
تقدم إليه صلواتك وفعلك، وقال؟ الأزلى ﴿الله لطيف بعباده﴾ الشورى، أى مريد بهم
الرفق والرحمة فيما لايزال، ولا يتصور أن يمنع العبد منهما بعد وجوده فإن وعده
سبحانه لا يخلف.
- إلـهى إن ظهرت المحاسن منى فبفضلك ولك
المنة على وإن ظهرت المساوى منى فبعدلك ولك الحجة على!
أى إن ظهرت أنواع الطاعات والصفات المحمودة منى فبفضلك، ولك المنة؛ أى
الامتنان على بشهادة ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبد﴾ النور،
وملاحظة قوله ﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور﴾ النور، وإن ظهرت المساوى؛
أى أنواع المعاصى والصفات المذمومة منى فبعدلك، لا بطريق الظلم فإنك متصرف فى ملكك
ولك الحجة على لأنك رب وأنا عبد، فتقول: لم فعلت يا عبدى! وليس لى عليك حجة بأن
أقول إن ذلك بتقديرك يا ربى، فإن ذلك شأن الجاهل، وأما العالم، فيقول: المالك يتصرف
فى ملكه كيف يشاء، بذوق ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ الأنبياء.
- إلـهى كيف تكلنى إلى نفسى وقد توكلت لى؟
وكيف أضام وأنت الناصر لى؟ أم كيف أخيب وأنت الحفى بى؟
يعنى أن من أسمائه تعالى الوكيل، أى الكافى والناصر، أى مانع الضيم
والذل، والحفى بالحاء المهملة والفاء أى اللطيف، وهذه الأسماء تقتضى وجود آثارها من
كفاية العبد، ونصرته واللطف به.
- ها أنا
أتوسل إليك بفقرى إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك
حالى وهو لا يخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالى وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب
آمالى وهى قد وفدت إليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالى وبك قامت وإليك؟.
لما كان أعظم ما يتوسل أى يتقرب به العبد إلى مولاه فقره إليه فى كل
حال من الأحوال، لكونه مقتضى العبودية بلا اشتباه، قال المصنف: ها أنا أتوسل إليك
بفقرى إليك، ثم إنه ترقى عن هذا المقام، ورأى أن التوسل بالفقر معلول عند العارفين
الأعلام، فإن توسل العبد به يقتضى شهوده له واعتماده عليه، ورأى أيضا أنه لا
مناسبة بين المتوسل به والمتوسل إليه، فقال: وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل
إليك؟ فلا يصح التوسل بالفقر من هذا الوجه عند العارفين، كما هو مقتضى الحقيقة،
والأول مقام السالكين وهو مقتضى الشريعة ويناسب مقام العارفين، ما حكى أن سيدى أبا
الحسن الشاذلى دخل على شيخه سيدى عبد السلام، فقال له: يا أبا الحسن! بماذا تلقى
الله تعالى؟ فقال له: بفقرى، فقال له الشيخ: والله لئن لقيت الله بفقرك لتلقينه
بالصنم الأعظم، ولا تصح حقيقة الفقر إلا بالغيبة عن الفقر وإلا كنت غنيا بفقرك، ثم
أن المصنف ترقى إلى مقام الخليل المقتضى لترك الدعاء والتسليم إلى الملك الجليل،
فتعجب من نفسه فى حال السؤال السابق وقال: أم كيف أشكو حالى وهو لا يخفى عليك؟ فإن
الخليل لما قال له جبريل عندما أراد النمرود أن يلقيه فى النار: سل مولاك، فقال
حسبى من سـؤالى علمه بحالى، ثم تعجب أيضا من كـونه يسأل بقوله: أم كيف
أترجـم لك بمقالى وهو منك برز إليك؟ يعنى أن العبد لا تنسب إليه الترجمة
والسؤال، فإن الذى أنطق لسانه إنما هو الكبير المتعال، ومن أنطق لسانه عالم
بأحواله، فهو المسئول الذى يتفضل عليه عند تحريك لسانه بحصول آماله، ولذا قال: أم
كيف تخيب آمالى أى ما أؤمله وأرتجيه من كل ما يرام وهى قد وفدت أى توجهت إليك.؟
شرح وتحليل
سيدى عبد المجيد الشرنوبي
الناس والمنن والعطايا
الناس فى ورود المنن على ثلاثة أقسام:
- فرح
بالمنن لا من حيث مهديها ومنشئها ولكن بوجود متعته فيها فهذا من الغافلين يصدق عليه
قوله تعالى ﴿حتى إِذا فرِحوا بِما أوتوا أخذناهم بغتة﴾ الأنعام.
- وفرح
بالمنن من حيث إنه شهدها منة ممن أرسلها، ونعمة ممن أوصلها، وهذا يصدق عليه قوله
تعالى ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون﴾ يونس.
- وفرح
بالله ما شغله من المنن ظاهر متعتها ولا باطن منتها بل شغله النظر إلى الله عما
سواه والجمع عليه فلا يشهد إلا إياه، وهذا يصدق عليه قوله تعالى ﴿قل الله ثم ذرهم
فى خوضهم يلعبون﴾ الأنعام.
فمن الناس قسم فرح -بفتح الفاء وكسر الراء منونا- أى شديد الفرح
بالمنن؛ أى النعم، لا من حيث مهديها ومنشئها وهو الله تعالى، وإنما فرحه بسبب تمتعه
بها، فهذا الفريق أشبه شئ بالأنعام الذين يأكلون ويشربون ويغفلون عن صاحب الإنعام،
فربما كانت عليهم النعم استدراجا، فكلما أعطوا نعمة ازدادوا غفلة عن شكر المنعم حتى
يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
وقسم فرح بالنعم من حيث إنه شهدها منة وفضلا ممن أرسلها إليه، ونعمة
ممن أوصلها لديه وهو الله تعالى فشكره سبحانه عليها، وشرف بذلك ولكن انحط قدره حيث
نظر إلى حظ نفسه فى النعمة وارتكن إليها، فإذا نزعت منه تغير.
وقسم فى غاية الشرف والكمال لم ينظر بعين البصيرة إلا للمنعم المفضل،
فلم يلتفت إلى ظاهر متعة النعم، أى التمتع بها كالقسم الأول، ولا إلى باطن منتها من
حيث إنها منة من الله وعناية منه بهم كالقسم الثانى، بل شغله النظر إلى الله تعالى
عما سواه، والجمع عليه بقلبه فلا يشهد إلا إياه، لأن المشاهد للمنعم فان عن حظوظ
نفسه، فهو يرى الأشياء كلها نعما لا فرق عنده بين وجود وعدم، ولا منع وعطاء، لا
يخاف عليه من التغير والانقلاب لتغير الأفعال والأسباب.
وقد أوحى الله إلى سيدنا داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (يا
داود قل للصديقين بى فليفرحوا وبذكرى فليتنعموا) يعنى أن من كان كثير الصدق فى
الأقوال والأفعال والأحوال، فلا ينبغى أن يفرح إلا بكونه عبدا لذى العزة والجلال
ولا يتلذذ إلا بذكر الكبير المتعال، فإنه إذا كان بهذه المثابة يبلغه سيده الآمال
والله تعالى يجعل فرحنا وإياكم به وبالرضا منه، وأن يجعلنا من أهل الفهم عنه، وأن
لا يجعلنا من الغافلين، وأن يسلك بنا مسلك المتقين بمنه وكرمه، ويقول سيدى فخر
الدين رضى الله عنه:
أهل العطايا أثقلت أجيادهــم لكنهم ما جاوزوا الأستـــارا
من كل بـاب يدخلـون بإذنـه لبسوا إذا شاءوا الولوج دثارا
مدثرين لكـل أمـر بـالـذى يعطون منه إذا دعوا أسـرارا
ومقصرين الحول لما يؤمـروا قد سلموا الإقبـال والإدبـارا
عصام مقبول
|