بيت الله الحرام
لمكة أسماء كثيرة منها مكة، بكة، البيت الحرام، البيت العتيق، البلد
الأمين، أم القرى، القادس، المقدسة، الحاطة، الرأس، البلدة، البنية، الكعبة. كما
وصفها الله سبحانه وتعالى بالبيت العتيق، لعتقه رقاب المذنبين، وسميت بكة لأنها تبك
أعناق الجبابرة، وقيل لأن الناس يتباركون فيها، وقال قتادة رضى الله عنه إن الله بك
بالبلد الحرام الناس جميعها، فيصلى النساء أمام الرجال، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الله تعالى قد حرم مكة قبل خلق
السماوات والأرض، كما فى الصحيحين عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق
السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه
لأحد قبلى ولم يحل لى إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا
يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقتطه إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها، أى أنه لا
يصح أن يقضى الإنسان حاجته فى خلاء مكة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم.
وقد جاء أيضا فى صحيح مسلم عن سيدنا جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال
قال صلى الله عليه وسلم )إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإنى حرمت المدينة ما بين
لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاها.
فضل البيت وشرفه
وفيما ورد فى صحيح البخارى: أن سيدنا آدم عليه السلام لما بنى الكعبة
قال: يا رب إن لكل عامل أجرا، فقال تعالى: يا آدم إذا طفت بها غفرت لك، قال: يا رب
زدنى، قال عز وجل: يا آدم إذا طاف بها أبناؤك غفرت لهم، قال: يارب زدنى، قال: يا
آدم أغفر لمن استغفر له الطائفون، فهلل آدم وقال: حسبى حسبى.
ومن شرف الكعبة أنّ الآمر ببنائها هو المولى الجليل، والبانى لها هو
الخليل، والمعين فى بنائها هو سيدنا إسماعيل، والمهندس لها هو سيدنا جبريل عليهم
السلام أجمعين.
ولقد روى الإمام النسفى رضى الله عنه: أن سيدنا إبراهيم عليه السلام،
لما فرغ من عمارتها، قال: اللهم من حج هذا البيت، من شيوخ أمة نبيك محمد صلى الله
عليه وسلم فشفعنى فيه، وقال سيدنا إسماعيل عليه السلام: اللهم من حج هذا البيت من
شباب أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فشفعنى فيه، وقالت السيدة سارة: اللهم من حج
هذا البيت من نساء أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فشفعنى فيه.
وقالت السيدة هاجر: اللهم من حج هذا البيت من أرقاء أمة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم فشفعنى فيه.
وقيل أن هذا هو السبب فى أننا أُمرنا فى الصلاة، بالصلاة والسلام على
سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم.
معنى الحج وأصل المناسك
يقول الحق تبارك وتعالى فى محكم التنزيل ﴿ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيل﴾ فالحج فرض على كل مسلم ومسلمة لأنه الركن الخامس فى الإسلام فإذا
بلغ المكلف حد الإستطاعة وجب عليه فريضة الحج وإلا سقطت عنه لعدم الاستطاعة ومن حج
حجة واحدة فقد أتى بالركن، وقد قال صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس قد فرض عليكم
الحج فحجوا، فقال رجل أفى كل عام يا رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وسلم حتى قالها
ثلاثا، فقال صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) وشرط الاستطاعة فهى
إمكانية الوصول إلى الأماكن المقدسة فى أمان على نفسه وماله.
أما من ناحية تعريف الحج فهو معناه لغةً القصد إلى معظم، ومعناه شرعا
أداء أعمال مخصوصة فى زمان مخصوص ومكان مخصوص.
والقصد من إقامة شعائر الحج هو إحياء سنة سيدنا إبراهيم خليل الرحمن
عليه السلام وذلك عندما سافر من الشام قاصدا زيارة مصر ونزل فى ضيافة ملكها وكان من
الأشراف الساميين، أى من أولاد سيدنا سام بن سيدنا نوح عليهم السلام، ولما انتهت
الزيارة زوده الملك بالهدايا والعطايا وزوجه أميرة مصرية وهى سيدتنا السيدة هاجر
وقد اتجه إلى الحجاز وكانت قد أنجبت له سيدنا إسماعيل عليه السلام، فتركهما فى شعاب
مكة ودعا لهما وقال ﴿ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا
ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون﴾
وسافر إلى الشام حيث زوجته السيدة سارة وابنه سيدنا اسحاق عليهم السلام.
ولما نفد الماء من السيدة هاجر أخذت تبحث عن الماء جريا وهرولة بين
جبلين ألا وهما جبل الصفا وجبل المروة، ولذلك كان السعى بينهما إكراما وإحياء لما
فعلته السيدة هاجر.
وفى أثناء ذلك ضرب سيدنا إسماعيل الأرض برجله نبعت عين ماء عذب وفار
الماء حتى كاد يملأ الأرض جميعا، فأتته السيدة هاجر مسرعة وهى تقول (زمى زمى) فهدأت
العين ولذلك سميت (زمزم) فكان الشرب من ماء زمزم احياء لما فعله سيدنا إسماعيل
بضربه الأرض برجله ليشرب الحجيج من تحت قدم سيدنا إسماعيل عليه السلام.
ثم كبر سيدنا إسماعيل حتى أصبح شابا قويا وكان أول من روض الخيل وركبه،
وكانت هناك قبيلة تدعى جرهم كانت فى سفر للتجارة فمرت بشعاب مكة وقد رأوا الطير
يحوم هناك فعرفوا أن هناك ماء، فذهبوا فوجدوا السيدة هاجر وسيدنا إسماعيل، وبدأت
دعوة سيدنا إبراهيم فى التحقق ﴿فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم﴾ فتعرفوا عليهم
وتزوج سيدنا إسماعيل من امرأة من جرهم.
ثم عاد سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحجاز لزيارة أهله
وكان سيدنا إسماعيل فى رحلة صيد، وزوجة سيدنا إسماعيل لم تحسن لقاء سيدنا إبراهيم،
فقال لها أقرأيه السلام وقولى له إن أباك يوصيك بأن تغير عتبة بيتك، فعندما عاد
سيدنا إسماعيل وأبلغته بما قال سيدنا إبراهيم، أطلق سراحها وتزوج بإخرى من جرهم، ثم
عاد سيدنا إبراهيم مرة أخرى لزيارة أهله فى الحجاز، وكان سيدنا إسماعيل أيضا فى
رحلة صيد ولكن اختلف الأمر هذه المرة فاستقبلته زوجة سيدنا إسماعيل كأحسن ما يكون
ولاقى منها حسن المعاملة وكرم الضيافة، فقال لها أقرأيه السلام وأوصيه أن يثبت عتبة
بيته.
وفى المرة الرابعة لزيارته لسيدنا إسماعيل قال له إن الله أمرنى أن
نبنى البيت الحرام واستعانوا بماء زمزم وبالطين والحجارة فى رفع قواعد البيت، وأهبط
سيدنا جبريل الحجر الأسود من الجنة، فكان يساعدهما فى ترحيل مواد البناء ويضئ لهما
أيضا فى الليل، وبعد أن فرغ سيدنا إبراهيم عليه السلام من عمارة البيت دعا بدعوات
فقال ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك
أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة
ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ ولما قال سيدنا إبراهيم ﴿وأرنا مناسكن﴾ نزل سيدنا
جبريل وأخذ بيد سيدنا إبراهيم وانطلق به إلى الصفا وقال هذا من شعائر الله ثم إلى
المروة وقال هذا من شعائر الله، ثم انطلق نحو منى فما كان من العقبة فإذا بإبليس
اللعين قائم عند الشجرة فقال سيدنا جبريل لخليل الرحمن كبر وارمه، فانطلق اللعين من
مكانه وذهب إلى الجمرة الوسطى فلما جاوزاه قال جبريل للخليل كبر وارمه، فكان رمى
الجمار إحياء لما فعله سيدنا إبراهيم مع إبليس.
أصناف الحج
ثم أمر الحق سبحانه سيدنا إبراهيم بأن يؤذن فى الناس بالحج، فقال سيدنا
إبراهيم: يارب إذا أذنت فكيف أُسمع من هم فى أصلاب الرجال؟ فقال الحق سبحانه: عليك
الآذان وعلينا البلاغ، فأذن سيدنا إبراهيم ثلاث مرات قائلا (يا عباد الله هلموا إلى
حج بيت الله الحرام) فتجلى الحق سبحانه باسمه السميع ليسمع صوت سيدنا إبراهيم لعالم
الأرواح واستمر هذا التجلى الإلهى منصوبا فنزل سيدنا جبريل بصفته أمين سر الوحى
وأذن كما أذن سيدنا إبراهيم، وهنا أسرع اللعين إبليس أيضا وأذن كما أذن سيدنا
إبراهيم وذلك من باب قوله تعالى ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ ومن هنا نجد السر فى
أن سائر المسلمين متفاوتون فى تلبية دعوة الحج، فنجد من يكون سفيها فيذهب للحج
ويعود أكثر سفاهة، ونجد من يكون سفيها ويذهب للحج ويعود طائعا ونجد من يكون طائعا
ويذهب للحج ويعود أكثر طاعة ونجد الصالحين الذين يذهبون للحج ويعودون وهم مزودين
بالأنوار والأسرار.
فمن سمع نداء إبليس يكون سفيها ويذهب للحج ويعود أكثر سفاهة، وهذا يحدث
كثير.
ومن سمع نداء سيدنا جبريل يذهب عاصيا مذنبا ويعود مستقيما على الطاعات
والعبادات.
وأما من سمع النداء الأول لسيدنا إبراهيم فيخرج للحج ويموت فى الطريق
قبل أن يصل الحجاز فيخلق الله سبحانه ملكا يحج له كل عام وتكتب هذه الحجة فى صحيفته
إلى يوم القيامة.
ومن سمع النداء الثانى لسيدنا إبراهيم فيخرج للحج فى شهر رجب من منطلق
الحديث الشريف (رجب شهر الله وشعبان شهرى ورمضان شهر أمتى) فيكون الحاج فى الحرم
المكى فى شهر رجب وفى شعبان يكون الحاج فى الروضة الشريفة وفى رمضان يكون الحاج فى
الحرم المكى لقضاء عمرة رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم (عمرة فى رمضان كحجة معى)
ثم يستمر الحاج حتى العشرة أيام من ذى الحجة ليؤدى فريضة الحج وهذا معنى قوله تعالى
﴿الحج أشهر معلومات﴾ وهذا النوع يطلق عليه العارفون حجة التضعييف.
أما الصالحون فهم الذين سمعوا النداء الثالث لسيدنا إبراهيم فيذهبون
للحج ليتلقوا المعارف الإلهية والتجليات النبوية.
بناء البيت
روى الإمام النووى رضى الله عنه، أن الكعبة شرفها الله تعالى بنيت ست
مرات: الأولى بناء الملائكة والثانية بناء سيدنا آدم عليه السلام والثالثة بناء
سيدنا إبراهيم عليه السلام والرابعة بناء قريش والخامسة بناء عبد الله بن الزبير ثم
بناء الحجاج وهو البناء الموجود الآن.
وقال البعض أن أول من بناها سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وأما حج
سيدنا آدم وسيدنا نوح فكان حول الأساس الذى تم وضعه.
وأما عن بناء سيدنا إبراهيم الخليل فقد أمر الحق سبحانه خليله وسيدنا
إسماعيل بتطهير البيت العتيق فقال فى محكم التنزيل ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من
البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾ فعندما أمره الحق تبارك
وتعالى ببناء البيت، انطلق ومعه سيدنا إسماعيل ولا يدريان أين البيت، حتى أتيا
مكة، فأرسل الحق سبحانه وتعالى (السكينة) وهى ريح وتسمى (الخجوج) ولها جناحان،
ولها رأس فى صورة حية، فكشفت لهما عن مكان البيت، وفى رواية أخرى أن هذه الريح قد
نادت سيدنا إبراهيم وقالت له ابنِ على ظلى، ثم شرع سيدنا إبراهيم فى بناء البيت،
ومعه سيدنا إسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان ﴿ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾
ويبكى سيدنا إسماعيل ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا
يتقبل منك!! وأخذ البناء فى الارتفاع، فوقف الخليل على حجر وجعل سيدنا إسماعيل
يناوله الحجارة، ولما انتهى من البناء كان الحجر قد لان وغاصت أقدام سيدنا إبراهيم
فى الحجر حتى أخمص قدميه عليه السلام، ولهذا قال أبو طالب فى قصيدته اللامية:
وموطئ إبراهيم فى الصخر رطبة على قدميه حافيا غيـر نـاعـل
وعن سيدنا أنس بن مالك رضى الله عنه قال: رأيت المقام ويقصد الحجر وفيه
أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال سيدنا عمر
بن الخطاب رضى الله عنه: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام (يقصد هذا الحجر) فنزل
قوله تعالى ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى﴾ فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر بينه وبين البيت وصلى ركعتين.
ثم جاء بعد ذلك تجديد بناء الكعبة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد
بلغ من العمر 53 عاما آنذاك، واجتمعت قريش لبنيانها، ثم هابوا أن يهدموها وأرادوا
تسقيفها فقط،لأنهم وجدوا أن كنز الكعبة قد سُرق، ثم وجدوه عند رجل يدعى دويك، مولى
بنى مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، وقيل أن نفرا قد سرقوا كنز الكعبة، ثم
وضعوه عند دويك هذا، ثم هاج البحر ورمى بسفينة إلى الشاطئ فتحطمت، فأخذتها قريش
وأعدت خشبها لتسقيف الكعبة، ثم كان هناك بئر الكعبة يطرح فيه ما يهدى للكعبة، وكانت
فيه حية تخرج وتلتصق بجدار الكعبة، فإذا اقترب منها أحد كشت وفتحت فاها، فخافت قريش
من أن تمس الكعبة، ولم يقتربوا منها لا بهدم أو تسقيف، وذات يوم خرجت الحية إلى
جدار الكعبة، فأرسل الله إليها طائرا فاختطفها وذهب بها، فقالت قريش: إن الله قد
رضى لنا ما أردناه للكعبة، ونحن عندنا الخشب وقد كفانا الله شر الحية، فلما أجمعوا
أمرهم على هدم الكعبة، قام رجل من بنى مخزوم، وتناول حجرا من الكعبة، فوثب الحجر من
يده، وعاد إلى مكانه مرة أخرى، فعرف هذا المخزومى أن قريشا ستدخل فى بناء الكعبة
مالا حراما، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبا، ولا بيع
ربا ولا مظلمة أحد، ثم قسموا الكعبة فيما بينهم ليشرعوا فى الهدم، فقُسمت بين بنى
عبد مناف وبنى مخزوم وبنى جمح وبنى قصى بن عدى، ولكنهم هابوا من الكعبة أن يهدموها،
فتقدم الوليد بن المغيرة وقال: أنا أبدأكم فى هدمها، فأخذ المعول وقام إلى الكعبة،
والقوم يتربصون به ويقولون: لو أصيب الوليد لا نهدم منها شيئا، وإن لم يصبه منها شئ
فقد رضى الله عما سنصنع بها، ثم تقدم الوليد وهدم ولم يحدث له شئ وهدم الناس معه
حتى انتهوا إلى الأساس الذى وضعه سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت حجارة خُضر آخذ
بعضها البعض، فأراد رجل من قريش أن يُدخل المعول ما بين الحجارة لهدمها، فلم يتحرك
الحجر، وارتجت مكة بأسرها، فعرفوا أن هذا هو الأساس وانتهوا إليه.
وبعد أن فرغت قريش من بناء الكعبة، وانتهت إلى موضع الحجر الأسود،
اختصموا فيه فكل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه لتنال هذا الشرف، حتى اشتد الخصام
بين القبائل، حتى أن بنى عبد الدار أتوا بجفنة مملوءة دما ووضعوا أيديهم فيها ومعهم
بنو عدى وتعاونوا على القتال، وسُموا (لعقة الدم) ومكثت قريش على هذا الحال بضع
ليال، ثم اجتمعوا وقام فيهم أبو أمية بن المغيرة وقال: حكموا فيكم أول من يدخل من
هذا الباب، فارتضوا جميعا حكم أبى أمية، فكان أول داخل هو الحبيب المصطفى صلوات ربى
وسلامه عليه، ففرحوا وقالوا: هذا هو الأمين، رضينا بحكمه، فأخبروه الخبر، فقال صلى
الله عليه وسلم: هلموا بثوب، فأخذ الثوب ووضع بيديه الشريفة الحجر فيه وقال: كل
قبيلة ترفع الثوب من ناحية، وارفعوه جميعكم، فحكم بينهم بالعدل وأرضاهم
جميعا.
الحجر الأسود
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد وعد هذا
البيت أن يحجه فى كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أكملهم الله عزّ وجل من الملائكة وأن
الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة وكل من حجها يتعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل
الجنة فيدخلون معها كما أخرج البيهقى بسند صحيح فى دلائل النبوة عن سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الحجر الأسعد ياقوتة من يواقيت الجنة ولولا ما مسه
من خطايا بنى آدم لأضاء مابين المشرق والمغرب وما مسه من ذى عاهة ولا سقيم إلا شفى.
وكان حضرة النبى صلى الله عليه وسلم يقبله كثيرا وكان يطوف على الراحلة
فيضع المحجن عليه ثم يقبل طرف المحجن أى العص.
كما قبله سيدنا عمر بن الخطاب فى خلافته ثم قال إنى أعلم أنك حجر لا
تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم بكى،
فالتفت وراءه فرأى سيدنا على كرم الله وجهه فقال يا أبا الحسن ها هنا تسكب العبرات
وتستجاب الدعوات فقال على رضى الله عنه يا أمير المؤمنين بل هو يضر وينفع، قال أمير
المؤمنين: وكيف؟ فقال سيدنا على: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب
عليهم كتابا ثم ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود،
أخرج ذلك الإمام البخارى ومسلم .
وهذا يفسر لنا معنى قول الناس عند استلام الحجر اللهم إيمانا بك
وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك إخوة الإسلام.
وفى رواية الحاكم للإمام على: أنه يأتى يوم القيامة بلسان زلق وشفتين
ويشهد لمن قبله.
زيارة الروضة الشريفة
إن من أوجب واجبات الحج زيارة الروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام فلا يوجد بعد مكة بقعة أفضل من مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأن الأعمال فيها مضاعفة حيث يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة فى
مسجدى هذا خير من ألف فى سواه إلا المسجد الحرام) البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى
الله عنه.
فأفضل بقاع الأرض على الإطلاق ثلاث هم المسجد الحرام والمسجد النبوى
والمسجد الأقصى حيث أخرج البخارى عن سيدنا أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم
قال (لا تشد الرجال إلا لثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الاقصى).
وقد قال صلى الله عليه وسلم (من زار قبرى وجبت له شفاعتى) وقال أيضا
(من حج ولم يزرنى فقد جفانى ومن جفانى فلا نصيب له فى شفاعتى).
واخرج الشيخان البخارى ومسلم فى صحيحيهما، فى فضيلة البيت الحرام
والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، عن سيدنا أنس بن مالك رضى
الله عنه عن حضرة النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس من بلد إلا سيطأه الدجال
إلا مكة والمدينة المنورة ليس من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها).
وقال صلى الله عليه وسلم (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإنى
أشفع لمن يموت بها) رواه الترمذى عن ابن عمر.
وقوله تعالى ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر
لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيم﴾ قد سن أهل المذاهب للحجيج بأنهم يستغفرون الله
عند سيدنا رسول الله ليغفر لنا الله، ولذلك تقول السيدة عائشة أن استغفارنا ليحتاج
إلى استغفار، بمعنى أن استغفارنا ليحتاج إلى استغفار النبى صلى الله عليه وسلم.
كما أورد ابن كثير فى تفسير هذه الآية: أن العتبى كان جالسا عند
الروضة النبوية الشريفة فجاء أعرابى فقال: السلام عليك يا رسول الله، لقد سمعت
الله يقول ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيم﴾ وقد جئتك مستغفرا لذنبى مستشفعا بك عند ربى، ثم أنشد
قائلا:
يا خير من دُفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسى الفداء لقبر أنت سـاكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف، فقال العتبى: لقد غلبنى النوم فرأيت المصطفى صلى الله عليه
وسلم وهو يقول: يا عتبى إلحق بهذا الأعرابى وبشره بأن الله قد غفر له.
فزيارة الحبيب نابعة من محبتنا له وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن
عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه ويكون عترتى أحب إليه من عترته ويكون أهلى أحب إليه
من أهله ويكون ذاتى أحب إليه من ذاته) وهل نحن عرفنا أمور ديننا إلا منه صلوات ربى
وسلامه عليه؟
فمن الناس من يعتبر زيارة الروضة الشريفة شئ على هامش الحج ولكن إذا
نظرا بعين الاعتبار نجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول (من حج البيت ولم
يزرنى فقد جفانى) فمن منا يستطيع مجافاة حبيب الله صلوات ربى وسلامه عليه.
|