كريم المولدين
قبل أذان الفجر وقف المؤذن فى شموخ الجبل يُسبح وكأنه يَسبح فى
أنوار وقت السحر، لأن الرب ينزل إلى السماء الدنيا مناديا هل من كذا هل من كذا حتى
يطلع الفجر، ومن فوق المئذنة أخذ ينادى المؤذن فى تسابيحه قائلا: الصلاة والسلام
عليك يا أول خلق الله وخاتم رسل الله، فقال لى ولدى: أو ليس سيدنا آدم أول خلق الله
من البشر؟!! قلت له: نعم ولكن رسول الله أول خلق الله فى الخلق أجمعين فهو صلى الله
عليه وسلم القائل (كنت أول النبيين فى الخلق وآخرهم فى البعث) فصلى الولد ونام قرير
العين محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله بلفظ قال قلت: يا رسول
الله، بأبى أنت وأمى أخبرنى عن أول شىء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن
الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، والحديث طويل وقد ذكره صاحب كشف
الخفا مفصلا بتخريجه بغير نكير، وها نحن نجليه حبا فى أمة الحبيب، أما عن الخلاف
فى مسألة أولية خلق نور النبى صلى الله عليه وسلم فهو حاصل من قديم بين طائفة من
العلماء قليلة وأخرى هى جمهور العلماء من المحققين والأعلام، وأما الإمام فخر
الدين رضى الله عنه فهو كعهدنا به فى تبسيط علوم الأولين والآخرين فقد أتى بما
وهبه الله من الفتوحات بالقول الفصل فى هذه المسألة، ولم ينهج فيها نهج من سبقوه
فى الإتيان بالدليل عليها من أحاديث النبى فحسب وإنما استدل كثيرا بآيات الكتاب
الكريم نظرا لما ساد فى هذا الزمان من عجيب العجاب فى تضعيف الأحاديث واندثار
العلم الصحيح، فقال لسائله ذات مرة: إنهم يضعفون أحاديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم لغلبة الهوى عليهم فماذا سيصنعون بآيات الكتاب المبين؟ ماذا يقولون فى قوله
تعالى ﴿الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان﴾ إذا كان تعليم القرآن سابقا
على خلق الإنسان فمن يا ترى تعلم القرآن من الرحمن؟! ومن يا ترى أحق من رسول الله
بتعلم القرآن قبل غيره وهو فى ذاته قرآن يمشى على الأرض، بل ومن يا ترى أحق منه
بقوله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فإذا كان ذلك كذلك فالأمر
كما قرره السادة العلماء والأولياء هو أسبقية خلق نور النبى صلى الله عليه وسلم،
وفى سورة الإنسان الذى هو الإنسان الكامل كما سيتضح من قول الله تعالى ﴿هل أتى على
الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكور﴾ قال بعض أهل التفاسير أن الإنسان هنا
سيدنا آدم عليه السلام وقال البعض غير ذلك، منهم الإمام الألوسى رضى الله عنه صاحب
تفسير (روح المعانى) فقال: أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق
من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم. كما يشير أيضا إليه قول النابلسى
قدس الله سره دافعا ما يرد على الظاهر فقال: طه النبى تكونت من نوره كل الخليقة ثم
لو ترك القطا، وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة
والسلام ووجه الإنقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه. ويقول الإمام فخر الدين رضى
الله عنه: أن الإنسان المقصود فى هذه الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
والآية التالية تؤيد هذا الكلام، فقال سبحانه ﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج
نبتليه فجعلناه سميعا بصير﴾ وسيدنا آدم عليه السلام لم يخلق من نطفة، فيكون
الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أول الخلق باعتبار نوره ثم خلق من نطفة
أمشاج باعتبار تنزل هذا النور المركب فى جبين سيدنا آدم عليه السلام حتى خرج إلى
الدني. وبناء على ذلك فهو صلى الله عليه وسلم مولود مرتين، مرة فى عالم الأنوار
والأرواح، ومرة فى عالم الأجساد، ولذلك لقبه الإمام فخر الدين رضى الله عنه بـ (كريم
المولدين) فقال:
أرى من كريم المولدين إشارة���� وإن
اشارات الحبيب بشائر
وهاهى السيدة عائشة تقول عنه صلى الله عليه وسلم (كان قرآنا يمشى على
الأرض) وتقول أيضا (كان خلقه القرآن) وهو صلى الله عليه وسلم فى المولدين آية فى
ظهور الكرم الإلهى، فإن قال قائل: كيف يكون كرمه فى السماء؟!! بل وفى الأرض؟!!
نقول: فى قوله تعالى ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ أليس عالم أهل السماء من
العالمين؟ وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبرانى والبيهقى فى الدلائل
عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ من آمن تمت له
الرحمة فى الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن عوفى مما كان يصيب الأمم فى عاجل الدنيا من
العذاب من المسخ والخسف والقذف.
�وقال
صاحب (روح المعانى) أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع
الخلق وهو صلى الله عليه وسلم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع
فى أنه عليه الصلاة والسلام سبب لوجودهم، وعليه فكرمه فى المولدين رحمته المطلقة
للعالمين عاليهم وسافلهم قاصيهم ودانيهم فهو بحق (كريم المولدين). ويقول علماء الخط
العربى: إن الميم الأولى فى محمد تقع فوق السطر، والميم الثانية تقع تحت السطر،
وكأن نظره صلى الله عليه وسلم فى ميم أحمد كان متوجها بالكرم إلى الوجود من تحته
حيث كان قبل مولده فى الأرض، كما أن نظره صلى الله عليه وسلم فى الميم الأولى من
محمد متوجها بالكرم إلى أهل الملأ الأعلى بعد مولده فى أرض مكة، وكأن الخط العربى
ناطق بحقوقه صلى الله عليه وسلم كما نطقت كل العقول والفهوم وعرفت الأفئدة والبصائر
أنها إشارات الحبيب فى مولد الحبيب وإن إشارات الحبيب بشائر.
إبراهيم الدسوقى بدور
الصراط المستقيم
﴿الحمد لله﴾ بداية سورة الفاتحة ومن حديث أبى
هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا
قال العبد الحمد لله قال صدق عبدى الحمد لى) وفى رواية أخرى لحضرة النبى صلى الله
عليه وسلم (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة
فيحمده عليها) وقال الإمام الحسن البصرى رضى الله عنه: ما من نعمة إلا والحمد لله
أفضل منها، وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنعم الله
على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذى أعطاه أفضل مما أخذ) وفى نوادر الأصول
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن الدنيا كلها
بحذافيرها بيد رجل من أمتى ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك) ومعناه
أنه قد أعطى الدنيا ثم أعطى على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة
أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية وهى من الباقيات الصالحات قال
الله تعالى ﴿والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أمل﴾ ولكن بعد الحمد
والثناء على الله يطلب المسلم فى كل مرة يقرأ فيها سورة الفاتحة الهداية إلى
الصراط المستقيم فانظر إلى عبادتك التى تتطلب منك الصلاة يوميا فى الفرائض والسنن
أن تقرأ هذه السورة فى كل ركعة ثم تطلب فى صلاتك من الله جل وعلا طلبا مكررا فتقول
﴿إهدنا الصراط المستقيم﴾ نقف هنا لنسأل أنفسنا أى هداية نريد؟ أليس دخول الإسلام هو
الهداية المطلوبة من الإنسان؟ بل أكثر من ذلك أليس وقوفنا للصلاة بين يدى الله عز
وجل فى الصلاة خمس مرات فى اليوم والليلة مع السنن هو الهداية إلى الصراط
المستقيم؟ يقول البعض أن الصراط المستقيم هو الصراط الذى نعبر عليه يوم القيامة،
ولكن بالرجوع إلى وصف هذا الصراط نجده كما وصفوه مقسم إلى ثلاث مستويات فأوله صعود
ثم إستواء ثم نزول، وفى هذه الحالة لا يمكن وصفه بالإستقامة ثم أن الآية لا تقول
أنه صراط الله بل قالت (صراط الذين أنعم الله عليهم) فمن هم الذين أنعم الله
عليهم؟ نعود إلى القرآن فنجد فى سورة النساء ﴿ولهديناهم صراطا مستقيم﴾0 ومن يطع
الله والرسول فأولـئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولـئك رفيقا0 ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليم﴾ وقد فصل الله
جل وعلا أن من هداهم إلى الصراط المستقيم يكونوا مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فأما النبوة فقد ختمت بالحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم وأما الصديقية فمرتبة من رافق النبيين فى حياتهم مثال سيدنا أبو
بكر الصديق رضى الله عنه، وأما الشهداء فهم شهداء الجهاد الأكبر الذين قال فيهم
الحق ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ فهم الذين جاهدوا
فى الله أى فى ذكره والصلاة على حبيبه حتى هداهم سبيله أى طريقه وصراطه المستقيم،
وكذلك الصالحون من الأولياء فهم الذين أمرنا الله أن نكون رفقة وصحبة لهم، فإن
اهتديت إلى صراط أحدهم فقد استجاب الله لدعائك الذى تردده دائما فى صلاتك ﴿إهدنا
الصراط المستقيم﴾ وبهذا تكون قد اهتديت فى الإسلام للمرة الثانية الذى ذكرها الله
فى كتابه ﴿وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى﴾ فقد ذكرت الهداية آخرا
لأن الحق جل وعلا قال لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، أى أن الإنسان قد تاب عن
المعاصى وآمن بالله ثم عمل الصالحات بدلا من السيئات بما فيها من صوم وصلاة وعبادة
وبعد ذلك كله اهتدى، والهداية الثانية هى التى كان يطلبها دائما فى صلاته ﴿إهدنا
الصراط المستقيم﴾ فإن المؤمن مطالب بالبحث عن الصالحين ليكون لهم رفيقا ليتعلم
منهم العلم الحق والدين الحق ولا يضيع دينه هباء باتباع أصحاب الهوى والتفسير
بالرأى على غير بصيرة من الله جل شأنه وفى هذا يقول الإمام على كرم الله وجهه (الناس
فى العلم ثلاث عالم ربانى ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع
كل ريح لم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق) أى أن الناس على ثلاث
طبقات فى علوم الدين أولا العلم الربانى وهو من الصالحين الذين يدعون الله على
بصيرة والثانى هو المريد المتبع لعلوم هذا الرجل الصالح أما الجزء الثالث فهم
الذين يميلون مع كل ريح ولم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، فإذا
وجدت الرجل الصالح فاتبع طريقه وصراطه فيكون الله قد أجاب دعائك فى صلاتك ﴿إهدنا
الصراط المستقيم﴾ وفى هذا يقول الإمام فخر الدين رضى الله عنه:
أيها السالكون ما الحب سهل ��� قد هديتم صراطكم فاستقيموا
ومواصلة لما سبق من لزوم البحث الدائم والمتواصل من كل مسلم أن يبحث
عن شيخه لكى لا يقع فريسة للتخبط واتباع جماعات وفرق مختلفة يقودها أصحاب الهوى
والبحث عن الرياسة والفتوى بغير علم، وإن الباحث عن صلاح هذه الأمة عليه بحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكم أصبحتم فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه
وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتى على الناس زمان
قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه، العلم فيه خير من العمل) أخرجه
الطبرانى، وفى هذا الحديث يصف صلوات ربى وسلامه عليه الزمن الذى كان عليه الصحابة
من كثرة الفقهاء والعلماء ويصف أيضا زماننا من كثرة القراء والخطباء والفرق شاسع
بينهم لذا وجب على كل مسلم أن يبحث عن شيخه الحق كما قال الإمام على كرم الله وجهه
وأرشد إلى كيفية الأدب مع الشيخ (فاعلم أنه لابد لك من شيخ عالم تعم الناس بالسلام
وتخصه بالتحية، وإذا كان له حاجة سبقت الناس إليها وأن تجلس بين يديه فلا تغتب
عنده أحدا وأن لا تلح عليه فى السؤال ولا تعنته فى الإجابة وأن لا تقول له قال
فلان غير قولك، واعلم أن الشيخ كالنخلة تجلس تحتها تنتظر متى يسقط عليك ثمرها
واعلم أنه بموت العالم تثلم فى الإسلام ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة). هذه وصية
باب مدينة العلم إلى كل مسلم ليبحث عن شيخ عالم يقتدى به كما قال الحق تبارك
وتعالى فى سورة الأنعام ﴿أولـئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه
أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾ فالحمد لله أنا وجدنا الذين هدى الله، ثم هدانا
الله للإقتداء بهم فهم مصابيح الدجى بنور علومهم تمحى ظلمات الجهل وتنار مصابيح
العلوم، ويقول الإمام فخر الدين رضى الله عنه:
هل عسيتم إن شكـرتم����� ربكم
تلقـون ريــا
يا ضعاف العزم هــلا���� تقصدوا عبدا تقيــا
صاحبى من قيل عنـه����� كان
صديقــا نبيـا
محمد صفوت جعفر
شراب
الوصل
نصحت لوجه الله أبغى رضاءه وحب ذوى القربى وبرأت ذمتى
فى صحيح مسلم عن تميم الدارى رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ورسوله
وأئمة المسلمين وعامتهم) فقد وصف الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه الدين بأنه النصيحة.
وكان الإمام فخر الدين رضى الله عنه أجود ما يكون بالنصح الذى هو لب
الإرشاد فى هذا الدين الحنيف، كما يقول رضى الله عنه بأن خدمته فى هذا الدين كانت
لوجه الله، فلا يريد من الناس أن يقولوا أنه عالم فيفسد القصد، كما أنه أدى الأجر
لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحبه لذوى القربى كما أمر الحق تبارك وتعالى فى سورة
الشورى ﴿ذلك الذى يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور﴾ ليس
ذلك فحسب بل برأ ذمته بالنصح للناس بتأدية ذلك الأجر الواجب على كل مسلم، كذلك برأ
ذمته بخفائه كى لا يقولوا عالم فيضيع الأجر فأول من يحاسب من الناس العلماء.
وعن زيد بن أرقم رضى الله تعالى عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات، فقمن، فقال )كأنى قد دعيت
فأجبت، إنى قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى، وعترتى،
فانظروا كيف تخلفونى فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض) ثم قال (إن الله
عز وجل مولاى وأنا مولى كل مؤمن) ثم أخذ بيد الإمام على رضى الله تعالى عنه فقال
(من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
شيخ أبوه
|