قصص
سحر البلاغة
حكى أن المأمون قام بتولية عامل له على احدى البلاد، وكان يعرف عن هذا
العامل بالظلم فى حكمه، فأرسل المأمون إليه رجلا من أرباب دولته ليمتحنه، فلما قدم
عليه رسول المأمون أظهر له أنه قدم فى تجارة لنفسه ولم يعلمه أن أمير المؤمنين هو
الذى أرسله، فأكرم نزله وأحسن إليه وسأله أن يكتب كتابا إلى أمير المؤمنين المأمون
يمتدحه عنده ويشكر سيرته عنده ليزداد فيه أمير المؤمنين المأمون رغبة فيه.
فوافق رسول أمير المؤمنين، وكتب كتابا فيه .. بعد الثناء على أمير
المؤمنين، أما بعد .. فقد قدمنا على فلان، فوجدناه آخذا بالعزم، عاملا بالحزم، قد
عدل بين رعيته وساوى فى أقضيته، أغنى القاصد، وأرضى الوارد، وأنزلهم منه منازل
الأولاد، وأذهب ما بينهم من الضغائن والأحقاد، وعمّر منهم المساجد الداثرة، وأفرغهم
من عمل الدنيا، وشغلهم بعمل الآخرة، وهم مع ذلك داعون لأمير المؤمنين يريدون النظر
إلى وجهه والسلام.
فكان معنى هذه الرسالة: آخذا بالعزم، أى إذا عزم على ظلم أو جور فعله
فى الحال، وقوله قد عدل بين رعيته وساوى فى أقضيته أى أخذ كل ما معهم حتى ساوى بين
الغنى والفقير، وقوله عمّر منهم المساجد الداثرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل
الأخرة، يعنى أن الكل صاروا فقراء لا يملكون شـيئا من الدنيا، ومعنى قوله يريدون
النـظر إلى وجه أمير المؤمنين أى ليشـكوا حالهم وما نزل بهم.
فلما جاء الكتاب إلى المأمون عزله عنهم لوقته، وولى عليهم غيره.
*********
�قيل دخل مجنون الطاق يوماً إلى الحمام وكان بغير
مئزر فرآه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان في الحمام فغمض عينيه فقال المجنون:
متى أعماك الله؟ قال: حين هتك سترك.
*********
خرج الحجاج يوماً متنزهاً فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه، وانفرد
بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عجل فقال له: من أين أيها الشيخ؟ قال: من هذه القرية،
قال: كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمال، يظلمون الناس، ويستحلون أموالهم، قال: فكيف
قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما ولي العراق شر منه قبحه الله، وقبح من استعمله، قال: أتعرف
من أنا؟ قال: لا، قال: أنا الحجاج، قال: جعلت فداك أو تعرف من أنا؟ قال: ل. قال:
فلان بن فلان مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين، قال: فضحك الحجاج منه وأمر له
بصلة.
*********
خطب علـي رضي الله عنه فقال في خطبته: عباد الله الموت ليس منه فوت، إن
أقمتم أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، الموت معقود بنواصيكم، فالنجا النجا والوحا
الوحا، فإن وراءكـم طالباً حثيثاً وهو القبر، ألا وإن القـبر روضة من ريـاض الجنة
أو حفرة من حفر النار، ألا لأنه يتـكلم في كل يوم ثلاث كلـمات فيقول: (أنا بيت
الظلمة، أنا بيت الوحشة، أنا بـيت الديدان ألا وإن وراء ذلـك اليوم يوماً أشد منه
يوماً يشـيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير) ﴿تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات
حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عـذاب الله شـديد﴾ الحج.
ألا وإن وراء ذلك اليوم يوماً أشد منه فيه نار تتسعر حرها شديد وقعرها
بعيد، وحليها حديد، وماؤها صديد، ليس لله فيها رحمة، قال: فبكى المسلمون بكاء
شديداً، ثم قال: ألا وإن وراء ذلك اليوم ﴿جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾،
آل عمران، أدخلنا الله وإياكم دار النعيم، وأجـارنا وإياكم من العذاب الأليم.
نفحات وعبر
أقوال عن الرزق
2 كان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام يقول: الشمس فى الشتاء جلالى
ونور القمر سرجى، وبقل البرية فاكهتى، وشعر الغنم لباسى، أبيت حيث يدركنى الليل،
ليس لى ولد يموت ولا بيت يخرب، أنا الذى كببت الدنيا على وجهها.
ومن أقواله أيضا عليه الصلاة والسلام: انظروا إلى الطير تغدو وتروح ليس
معها شئ من أرزاقها، لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها، فإن زعمتم أنكم أكبر بطونا من
الطير، فهذه الوحوش والبقر والحمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
2 وأوحى الله تعالى إلى سيدنا موسى صلوات الله وسلامه عليه: أتدرى لم
رزقت الأحمق؟ قال: لا يا رب، قال سبحانه: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال.
2 وأوحى الله تعالى إلى سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: انظر إلى
الأرض فنظر إليها، فانفجرت فرأى دودة على صخرة، ومعها الطعام، فقال له سبحانه
وتعالى : أترانى لم أغفل عنها وأغفل عنك، وأنت نبى وابن نبى.
2 ودخل الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه المسجد وقال لرجل كان
واقفا على باب المسجد أمسك على بغلتى، فأخذ الرجل لجامها، ومضى وترك البغلة، فخرج
الإمام على وفى يده درهمان ليكافىء بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة
بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشترى بهما لجاما، فوجد الغلام اللجام
فى السوق قد باعه السارق بدرهمين فقال الإمام على رضى الله عنه: إن العبد ليحرم
نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له.
2 وصلى سيدى معروف الكرخى رضى الله عنه خلف إمام، فلما فرغ من صلاته
قال الإمام لسيدى معروف: من أين تأكل؟ قال: اصبر حتى أعيد صلاتى التى صليتها خلفك،
فقال الإمام: ولم؟ قال: لأن من شك فى رزقه شك فى خالقه.
2 وروى أن هذه الكلمات وجدها كعب الأحبار مكتوبة فى التوراة فكتبها
وهى: يا ابن آدم لا تخافن من ذى سلطان ما دام سلطانى باقيا، وسلطانى لا ينفد أبدا،
يا ابن آدم لا تخش من ضيق الرزق ما دامت خزائنى ملآنة، وخزائنى لا تنفد أبدا، يا
ابن آدم لا تأنس بغيرى، وأنا لك، فإن طلبتنى وجدتنى، وإن أنست بغيرك فتك وفاتك
الخير كله، يا ابن آدم خلقتك لعبادتى فلا تلعب، وقسمت رزقك فلا تتعب، وفى أكثر منه
فلا تطمع، ومن أقل منه فلا تجزع، فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت
عندى محمودا، وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتى وجلالى لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها
ركض الوحوش فى البر ولا ينالك منها إلا ما قد قسمته لك، وكنت عندى مذموما، يا ابن
آدم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعى بخلقهن، أيعيننى رغيف أسوقه لك من
غير تعب، يا ابن آدم أنا لك محب فبحقى عليك كن لى محبا، يا ابن آدم لا تطالبنى برزق
غد كما لا أطالبك بعمل غد، فإنى لم أنس من عصانى، فكيف من أطاعنى وأنا على كل شئ
قدير وبكل شئ محيط.
أمثال
وحكم
حكي أن حاتماً الأصم كان رجلاً كثير العيال، وكان له أولاد ذكور
وإناث، ولم يكن يملك حبة واحدة، وكان قدمه التوكل فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث
معهم، فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدثهم،
ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجاً، ويدعولكم
ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئاً ونحن
على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة؟ وكان له ابنة صغيرة فقالت:
ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناول للرزق، وليس
برزاق، فذكرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا انطلق حيث حببت،
فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج، وخرج مسافراً، وأصبح أهل بيته يدخل عليـهم
جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسف على فراقه أصحابه وجيرانه، فجعل أولاده
يلومون تلك الصـغيرة ويقولون: لو سكت ما تكلمنا، فرفعت الصغيرة طرفها إلى
السماء، وقالت: إلهي وسـيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا
تخيبهم، ولا تخجلني معهم، فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيداً،
فانقطع عن عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم،
فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم، فرفعت
زوجة حاتم رأسها إلى السماء وقالت: إلهي وسيـدي سبحانك البارحة بتنا جياعاً،
واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزاً جديداً وملأته ماء،
وقالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك
الماء فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين
يعرف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به، فقال الوزير: يا سيدي لقد سمعت أنه
البارحة أحرم بالحج وسافر ولم يخلف لعـياله شيئاً، وأخبرت أنهم البارحة باتوا
جياعاً، فقال الأمير: ونحن أيضاً قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يثقل
مثلنا على مثلهم، ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه:
من أحبني، فليلق منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم، ثم
انصـرفوا، وقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه
المناطق، فلما أنزل الأمير رحع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً
واستردها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديداً، فقالوا لها: ما هذا
البكاء. إنما يجب أن تفرحي، فإن الله قد وسع علينا، فقالت: يا أم. والله إنما بكائي
كيف بتنا البارحة جياعاً، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغـنانا بعد فقرنا،
فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا،
ودبره بأحسن التـدبير، هذا ما كان من أمرهم.
|