من خطب الإمام على
الحمد لله الذى لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصى نعماءه
العادون ولا يؤدى حقه المجتهدون، الذى لا يدركه بعد الهمم ولا
يناله غوص الفطن، الذى ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا
وقت معدود ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح
برحمته ووتد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته وكمال
معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده
الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفةٍ
أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوفٍ أنه غير الصفة، فمن وصف
الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن
جزأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حده
ومن حده فقد عده ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى
منه، كائن لا عن حدثٍ موجود لا عن عدمٍ، مع كل شئ لا بمقارنةٍ،
وغير كل شئ لا بمزايلةٍ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير
إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا
يستوحش لفقده.
طرف الأدباء
حكى عن بعض الولاة ببغداد جاؤوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر
فقال لأحدهما من أبوك فقال:
وإن نزلت يوما فسوف تعود
فمنهم قيام حولها وقـعــود |
|
أنا ابن الذى لا ينزل الدهر قـدره
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره |
فأطلقه وعظم فى عينه وقال هذا أبوه من بيت كبير وقال للآخر من
أبوك فقال:
ما بين مخزومها وهاشمها
يأخذ من مالها ومن دمهـا |
|
أنا ابن من دانت الرقاب له
تأتيه بالرغم وهى صاغرة |
فقال الوالى ما أشك أن هذا أبوه كان ملكا شجاعا فأمر
بإطلاقهما، فلما انصرفا كان فى المجلس رجل نبيه فقال للوالى
الشاب الأول كان أبوه فوالا والثانى كان أبوه حجاما فأعجب
الوالى منه ذلك فقال:
يغنيك مضمونه عن النسـب
ليس الفتى من يقول كان أبى |
|
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
إن الفتى من يقول هـا أنـا ذا |
وقال ميمون بن مهران: قال لى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه:
قل لى فى وجهى ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له فى
وجهه ما يكره.
وفى منثور الحكم ودك من نصحك وقلاك من مشى فى هواك.
وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: إن شئتم لأنصحن لكم، إن أحب
عباد الله إلى الله الذين يحببون الله تعالى إلى عباده ويعملون
فى الأرض نصحا.
ولورقة بن نوفل:
إنى النذير فلا يغرركم أحــد
إلا الإله ويردى المال والولـد
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا |
|
لقد نصحت لأقوام وقلت لهـم
لا شئ مما ترى تبقى بشاشته
لم تغن عن هرمز يوما ذخائره |
وقال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد: إنى قد أعددتك لأمر، قال: يا
أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أعد لك منى قلبا معقودا
بنصيحتك، ويدا مبسوطة لطاعتك، وسيفا مجردا على عدوك.
ويقال: من اصفر وجهه من النصيحة، اسود لونه من الفضيحة.
وأنشد الأصمعى:
تردد على ناصح نصحا ولا تلم
على الرجال ذوى الألباب
والفهم |
|
النصح أرخص ما باع الرجال فلا
إن النصائح لا تخفى مناهلـــها |
ولمعاذ بن مسلم:
هوى المنصوح عزلها القبول
فنالك دون ما أملت غــول |
|
نصحتك والنصيحة إن تعدت
فخالفت الذى لك فيه حــظ |
وقيل: أشار فيروز بن حصين على يزيد بن المهلب أن لا يضع يده فى
يد الحجاج فلم يقبل منه، وسار إليه، فحبسه وحبس أهله فقال
فيروز:
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فنفسك أولى اللوم إن كنت لائما
وما أنا بالداعى لترجع
سالمـا |
|
أمرتك أمرا حازما فعصيتنى
أمرتك بالحجاج إذ أنت قادر
فما أنا بالباكى عليك صبابة |
وقال طرفة:
وكن حين تستغنى برأيك غانـيا
فدعه يصيب الرشد أو يك غاويا |
|
ولا ترفدن النصح من ليس أهله
وإن امرأ يوما تولـى بـرأيـه |
غرائب الوزراء
ومن غريب ما اتفق وعجيب ما سبق: ما حكى أن ملكا من ملوك الفرس
يقال له أردشير، وكان ذا مملكة متسعة وجند كثير، وكان ذا بأس
شديد، قد وصف له بنت ملك بحر الأردن بالجمال البارع، وأن هذه
البنت بكر ذات خدر، فسير أردشير من يخطبها من أبيها، فامتنع من
إجابته، ولم يرض بذلك، فعظم ذلك على أردشير، وأقسم بالأيمان
المغلظة ليغزون الملك أبا البنت، وليقتلنه هو وابنته شر قتلة،
وليمثلن بهما أخبث مثلة، فسار إليه أردشير فى جيوشه، فقاتله،
فقتله أردشير وقتل سائر خواصه، ثم سأل عن ابنته المخطوبة،
فبرزت إليه جارية من القصر من أجمل النساء وأكمل البنات حسنا
وجمالا وقدرا واعتدالا، فبهت أردشير من رؤيته إياها، فقالت له:
أيها الملك إننى ابنة الملك الفلانى ملك المدينة الفلانية، وأن
الملك الذى قتلته أنت قد غزا بلدنا وقتل أبى وقتل سائر أصحابه
قبل أن تقتله أنت، وأنه أسرنى فى جملة الأسارى وأتى بى فى هذا
القصر، فلما رأتنى ابنته التى أرسلت تخطبها أحبتنى، وسألت
أباها أن يتركنى عندها لتأنس بى، فتركنى لها، فكنت أنا وهى
كأننا روحان فى جسد واحد، فلما أرسلت تخطبها خاف أبوها عليها
منك فأرسلها إلى بعض الجزائر فى البحر المالح عند بعض أقاربه
من الملوك، فقال أردشير: وددت لو أنى ظفرت بها فكنت أقتلها شر
قتلة، ثم إنه تأمل الجارية فرآها فائقة فى الجمال، فمالت نفسه
إليها، فأخذها للتسرى، وقال هذه أجنبية من الملك ولا أحنث فى
يمينى بأخذها، ثم إنه واقعها وأزال بكارتها، فحملت منه، فلما
ظهر عليها الحمل، اتفق أنها تحدثت معه يوما، وقد رأته منشرح
الصدر، فقالت له: أنت غلبت أبى وأنا غلبتك، فقال لها: ومن
أبوك؟ فقالت له: هو ملك بحر الأردن، وأنا ابنته التى خطبتها
منه، وأننى سمعت أنك أقسمت لتقتلنى فتحيلت عليك بما سمعت،
والآن هذا ولدك فى بطنى، فلا يتهيأ لك قتلى، فعظم ذلك على
أردشير إذ قهرته امرأة وتحيلت عليه حتى تخلصت من يديه،
فانتهرها، وخرج من عندها مغضبا، وعول على قتلها، ثم ذكر لوزيره
ما اتفق له معها، فلما رأى الوزير عزمه قويا على قتلها خشى أن
تتحدث الملوك عنه بمثل هذا، وأنه لا يقبل فيها شفاعة شافع،
فقال أيها الملك: إن الرأى هو الذى خطر لك والمصلحة هى التى
رأيتها أنت، وقتل هذه الجارية فى هذا الوقت أولى وهو عين
الصواب لأنه أحق من أن يقال إن امرأة قهرت رأى الملك وحنثته فى
يمينه لأجل شهوة النفس، ثم قال أيها الملك: إن صورتها مرحومة
وحمل الملك معها، وهى أولى بالستر، ولا أرى فى قتلها أستر ولا
أهون عليها من الغرق، فقال له الملك: نعم ما رأيت، خذها
أغرقها، فأخذها الوزير ثم خرج بها ليلا إلى بحر الأردن ومعه
رجال وأعوان، فتحيل إلى أن طرح شيئا فى البحر أوهم من كان معه
أنها الجارية، ثم إنه أخفاها عنده، فلما أصبح جاء إلى الملك،
فأخبره أنه أغرقها، فشكره على ما فعل، ثم إن الوزير ناول الملك
حقا مختوما وقال أيها الملك إنى نظرت مولدى، فرأيت أجلى قد دنا
على ما يقتضيه حساب حكماء الفرس فى النجوم، وإن لى أولادا
وعندى مال قد ادخرته من نعمتك، فخذه إذا أنا مت إن رأيت، وهذا
(الحق) فيه جوهر اسأل الملك أن يقسمه بين أولادى بالسوية فإنه
إرثى الذى قد ورثته من أبى وليس عندى شئ ما اكتسبته منه إلا
هذا الجوهر، فقال له الملك يطول الرب فى عمرك ومالك لك
ولأولادك سواء كنت حيا أو ميتا، فألح عليه الوزير أن يجعل
(الحق) عنده وديعة فأخذه الملك وأودعه عنده فى صندوق، ثم مضت
أشهر الجارية، فوضعت ولدا ذكرا جميلا حسن الخلقة مثل فلقة
القمر، فلاحظ الوزير جانب الأدب فى تسميته، فرأى أنه إن اخترع
له اسما وسماه به، وظهر لوالده بعد ذلك، فيكون قد أساء الأدب،
وإن هو تركه بلا اسم لم يتهيأ له ذلك، فسماه شاه بور ومعناه
بالفارسية ابن ملك، فإن شاه ملك، وبور ابن، ولغتهم مبنية على
تأخير المتقدم وتقديم المتأخر، وهذه تسمية ليس فيها مؤاخذة،
ولم يزل الوزير يلاطف الجارية والولد إلى أن بلغ الولد حد
التعليم، فعلمه كل ما يصلح لأولاد الملوك من الخط والحكمة
والفروسية، وهو يوهم أنه مملوك له اسمه شاه بور، إلى أن زاهق
البلوغ، هذا كله وأردشير ليس له ولد، وقد طعن فى السن وأقعده
الهرم، فمرض وأشرف على الموت، فقال للوزير: أيها الوزير: قد
هرم جسمى وضعفت قوتى وإنى أرى أنى ميت لا محالة، وهذا الملك
يأخذه من بعدى من قضى له به، فقال الوزير: لو شاء الله أن يكون
للملك ولد، وكان قد ولى بعده الملك، ثم ذكره بأمر بنت ملك بحر
الأردن وبحملها، فقال الملك: لقد ندمت على تغريقها، ولو كنت
أبقيتها حتى تضع، فلعل حملها يكون ذكرا، فلما شاهد الوزير من
الملك الرضا، قال: أيها الملك إنها عندى حية ولقد ولدت ووضعت
ولدا ذكرا من أحسن الغلمان خلقا وخلقا، فقال الملك: أحق ما
تقول؟ فأقسم الوزير أن نعم، ثم قال: أيها الملك إنه فى الولد
روحانية تشهد بأبوة الأب وفى الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن،
لا يكاد ذلك ينخرم أبدا، وإننى آتى بهذا الغلام بين عشرين
غلاما فى سنه وهيئته ولباسه، وكلهم ذوو أباء معروفين إلا هو.
وإنى أعطى كل واحد منهم صولجانا وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين
يديك فى مجلسك هذا، ويتأمل الملك صورهم، وخلقتهم وشمائلهم، فكل
من مالت إليه نفسه وروحانيته فهو هو، فقال الملك: نعم التدبير
الذى قلت، فأحضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدى
الملك، فكان الصبى منهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك
تمنعه الهيبة أن يتقدم ليأخذها إلا شاه بور، فإنه كان إذا
ضربها، وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم، فأخذها ولا تأخذه الهيبة
منه، فلاحظ أردشير ذلك منه مرارا، فقال أيها الغلام ما اسمك؟
قال: شاه بور، فقال له: صدقت أنت ابنى حقا، ثم ضمه إليه وقبله
بين عينيه، فقال له الوزير: هذا هو ابنك أيها الملك، ثم أحضر
بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبى منهم والدا بحضرة
الملك، فتحقق الصدق فى ذلك، ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها
وجمالها، فقبلت يد الملك، فرضى عنها، فقال الوزير: أيها الملك
قد دعت الضرورة فى هذا الوقت إلى إحضار (الحق) المختوم، فأمر
الملك بإحضاره، ثم أخذه الوزير وفك ختمه وفتحه فإذا فيه (ذكر)
الوزير وأنثياه مقطوعة ومصانه فيه من قبل أن يتسلم الجارية من
الملك، وأحضر عدولا من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك،
فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به من قبل أن يتسلم
الجارية بليلة واحدة، قال: فدهش الملك أردشير وبهت لما أبداه
هذا الوزير من قوة النفس فى الخدمة، وشدة مناصحته، فزاد سروره
وتضاعف فرحه لصيانة الجارية وإثبات نسب الولد ولحوقه به، ثم إن
الملك عوفى من مرضه الذى كان به وصح جسمه، ولم يزل يتقلب فى
نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة، ورجع الملك إلى
ابنه شاه بور بعد موت أبيه، وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك
أردشير وشاه بور يحفظ مقامه ويرعى منزلته حتى توفاه الله
تعالى.
عدل وقضاء
دخل سيدنا عمر على سيدنا أبى بكر رضوان الله عليهما، فسلم
عليه، فلم يرد عليه، فكلم عبد الرحمن أبا بكر، فقال: أتانى،
وبين يدى خصمان قد فرغت لهما قلبى وسمعى وبصرى، وعلمت أن الله
سائلى عنهما وعما قالا وقلت، وادعى رجل على الإمام على عند
سيدنا عمر رضى الله عنهما والإمام على جالس، فالتفت عمر إليه
وقال: يا أبا الحسن قم فاجلس مع خصمك، فتناظرا، وانصرف الرجل،
ورجع على إلى مجلسه، فتبين لعمر التغير فى وجه على، فقال يا
أبا الحسن ما لى أراك متغيرا، أكرهت ما كان؟ قال: نعم، قال:
وما ذاك؟ قال: كنيتنى بحضرة خصمى، هلا قلت يا على قم، فاجلس مع
خصمك، فأخذ سيدنا عمر برأس الإمام على رضى الله عنهما فقبله
بين عينيه، ثم قال بأبى أنتم بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من
الظلمات إلى النور.
وعن الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه: القاضى كالغريق فى البحر
الأخضر إلى متى يسبح وإن كان سابحا، وأراد عمر بن هبيرة أن
يولى أبا حنيفة القضاء، فأبى، فحلف ليضربنه بالسياط، وليسجننه،
فضربه حتى انتفخ وجه أبى حنيفة ورأسه من الضرب، فقال: الضرب
بالسياط فى الدنيا أهون على من الضرب بمقامع الحديد فى الآخرة.
وعن عبد الملك بن عمير عن رجل من أهل اليمن قال: أقبل سيل
باليمن فى خلافة سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فكشف عن
باب مغلق فظنناه كنزا، فكتبنا إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه،
فكتب إلينا، لا تحركوه حتى يقدم إليكم كتابى، ثم فتح، فإذا
برجل على سرير عليه سبعون حلة منسوجة بالذهب وفى يده اليمنى
لوح مكتوب فيه هذان البيتان:
وقاضى الأرض داهن فى القضاء
لقاضى الأرض من قاضى السماء |
|
إذا خان الأمير وكاتــباه
فويل ثم ويل ثم ويـــل |
وإذا عند رأسه سيف أشد خضرة من البقلة مكتوب عليه هذا سيف عاد
بن ارم.