الـقـواطـع

بالحقائق ناطقين

إلع لمن نحب ونرضى

 

القواطع

الراضيات

انتهى بنا المقال السابق فى الحديث عن النفس (المطمئنة) ونواصل اليوم حديثنا عن (الراضيات) وهما نفسان سويا فى مقام واحد جمع الله فيه النفسان (الراضية والمرضية) وقال فيهما الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

والراضيات إذا العزائم ثبطت

 

رضيت بسير ثم باستبقاء

وقد جمعهما الإمام فخر الدين رضى الله عنه سويا فى بيت واحد، اقتداءً بالحق سبحانه وتعالى الذى جمعهما فى آية واحدة فى قوله سبحانه {إرجعى إلى ربك راضية مرضية} فليس هناك فصل بين المقامين، ونوضح بإيجاز كل واحدة على حدة:

النفس الراضية

من صفات هذه النفس حسن الخلق وترك كل ما سوى الله واللطف بالخلق والصفح عن ذنوبهم وحبهم والميل إليهم لإخراجهم من ظلمات طبائعهم، ومن حديث الإمام فخر الدين عنها: أن هذه النفس ترضى بالقليل وترضى بالكثير، تجمع بين حب الخلق والخالق وترضى بالشئ العظيم والشئ الدنئ، ليس عندها رفض فهى راضية على كل حال، فمن أجل ذلك هى ناقصة ويخشى على صاحبها أيضا.

ومن الغريب فى هذا المقام أنه يصعب التعرف على صاحب هذه النفس من حيث ظاهره ولكن من حيث باطنه فهو محل للأسرار، وقالوا سميت (راضية) أيضا لأن الحق قد رضى عنها أى أعطى صاحبها ما يحتاجه من العلوم من حضرة الحى القيوم، وقيل أنه يحدث لهذه النفس فناء آخر غير الفناء الذى مر بها، فهناك كان ذهول عن الحواس أما هنا فهو فناء عن محو الصفات البشرية والتهيئ للبقاء، فإنه أصبح قريب من استبدال الصفات النفسية بالصفات الإلهية، ولم يبق إلا اليسير، وهذه النفس الراضية ليس لها وارد لأن الوارد لا يكون إلا مع وجود الأوصاف البشرية وقد زالت فى هذا المقام، فهو فانٍ لأنه مستغرق فى شهود الجمال ولا تحجبه هذه الحالة عن التحدث فى العلوم والنصح للخلق، كما أن دعوته لا ترد إلا أن لسانه لا ينطق بها حياءً وأدباً مع ربه، وصار حب الخلق له قهرى.

ومن أجل ذلك يصعب التعرف عليه، فاحذر من فتنة الخلق، وتقدم فما بقى إلا القليل، وقف على باب الله حتى يفتح لك الدخول إلى المقام السادس والذى يسمى  بـ:

النفس المرضية

وصفاتها هى نفس صفات النفس (الراضية) فلا فصل بينهما ولكن الترحل فيها ترحل معنوى فقد رضى الله عنك وأعطاك ما تستحق من العلوم، ومن شأن الكرام الوفاء بما وعدوا، فهم الذين يضعون كل شئ فى موضعه، ولذلك  تجد الكامل منهم ينفق الكثير إذا صادف محله وأهله حتى يظن الجاهل أنه أسرف، ويبخل بالقليل إذا لم يصادف محله وأهله حتى  يقول الجاهل هذا بخل، واحذر من مكر الحق فلا يأمن مكر الله إلا كل جاهل، ولا خائف من مكر الله إلا كل عارف فإن هذا المقام حقيقة على اللسان ثقيل عند الامتحان.

واعلم أنك أصبحت مهيئا للدخول فى حضرة (من عرف نفسه فقد عرف ربه) فتعرف ربك بالعز والبقاء السرمدى فتكون مرآة عبوديتك مقابلة لمرآة الربوبية وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى  فى الحديث (ما وسعنى أرضى ولا سمائى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن) فسبحانه وتعالى عن الشبيه والمثيل ويطلعك الحق أيضا على سر قوله (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).

عصام مقبول / محمد رشاد

بالحقائق ناطقين

حسرة من لم يره

مازلنا مع كلام كبير القوم الشيخ أحمد الرفاعى، فما تصدر رضى الله عنه مجلسا ولا جلس على سجادة قط، وقال: أمرت بالسكوت، وكان لا يتكلم إلا قليلا.

وقال أبو العباس الخضر بن عبد الله الحسنى الموصلى: كنت يوما جالسا بين يدى الشيخ عبد القادر الجيلانى، فخطر فى نفسى الشيخ أحمد الرفاعى، فقال الشيخ عبد القادر: أتحب رؤيته؟ فقلت: نعم، فأطرق وقال: حضر، فقمت إليه وسلمت عليه، فقال: يا خضر من يرى مثل الشيخ عبد القادر سيد الأولياء يتمنى رؤية مثلى؟ وهل أنا إلا من رعيته!! ثم غاب، وبعد وفاته قمت بزيارته، فقال لى: يا خضر ألم تكفك الأولى؟

وقال الإمام أبو عبد الله محمد البطائحى: انحدرت فى أيام سيدى عبد القادر إلى أم عبيدة، فقال لى الشيخ أحمد الرفاعى: اذكر لى شيئا من مناقب الشيخ عبد القادر وصفاته، فذكرت منها شيئا، فجاء رجل فى أثناء حديثى فقال: مه، لا يذكر عندنا مناقب هذا، فنظر الشيخ إليه مغضبا، ثم قال: ومن يستطيع وصف مناقبه؟ ذاك رجل بحر الشريعة على يمينه وبحر الحقيقة عن يساره، من أيهما شاء اغترف، لا ثانى له فى وقتنا هذا.

وجاء رجل يودعه لأنه مسافر إلى بغداد، فقال له: إذا دخلتم بغداد فلا تقدموا على أحد حيا كان أو ميتا قبل زيارة الشيخ عبد القادر، فإن الشيخ عبد القادر؟ حسرة من لم يره.

هاديه الشلالي

إلع لمن نحب ونرضى

الطاعة والعاقبة

إلى الحبيب ابن الحبيب أبو الحبيب إلى عطاء الله إلى المصطفى من السيد البرهانى إلى صاحب الحمى .. إلى الأب الذى تعجز أى كلمات عن ذكر خصائصه ومعانيه .. إلى الإمام ابن الإمام أبو الإمام .. إلى مولانا الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى رضى الله عنهم أجمعين .. يقول الحق سبحانه {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ويقول الإمام البيضاوى فى تفسيره لهذه الآية:

بسبب إذنه فى طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه وكأنه احتج بذلك على أن الذى لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافرا مستوجب القتل وتقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت جاؤوك تائبين من ذلك وهو خبر أن وإذ متعلق به { فاستغفروا الله } بالتوبة والإخلاص  {واستغفر لهم الرسول } واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعا وإنما عدل الخطاب تفخيما لشأنه وتنبيها على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له ومن منصبه أن يشفع فى كبائر الذنوب { لوجدوا الله توابا رحيما } لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالرحمة وإن فسر وجد بصادف كان توابا حالا ورحيما بدلا منه أو حالا من الضمير فيه { فلا وربك } أى فوربك ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا فى قوله { لا يؤمنون } لأنها تزاد أيضا فى الإثبات كقوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد } {حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه { ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت } ضيقا مما حكمت به أو من حكمك أو شكا من أجله فإن الشاك فى ضيق من أمره { ويسلموا تسليما } وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم .ويقول الإمام الفخر الرازى فى تفسيره:

 اعلم أن قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون } قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الايمان إلا عند حصول شرائط: أولها: قوله تعالى: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم } وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا.  واعلم أن من يتمسك بهذه الآية فى بيان أنه لا سبيل الى معرفة الله تعالى إلا بارشاد النبى المعصوم  لأن قوله: {لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } تصريح بأنه لا يحصل لهم الايمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبى عليه الصلاة والسلام فى كل ما اختلفوا فيه, ونرى أهل العلم مختلفين فى صفات الله سبحانه وتعالى، فمن معطل ومن مشبه، ومن قدرى ومن جبري، فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الايمان إلا بحكمه وارشاده وهدايته، وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بادراك هذه الحقائق , وعقل النبى المعصوم كامل مشرق، فاذا اتصل اشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال، ومن الضعف إلى القوة، فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الالهية. والذى يؤكذ ذلك أن الذين كانوا فى زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين متيقنين كاملى الايمان والمعرفة، والذين بعدوا عنه اضطربوا او اختلفوا، وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين، فثبت ان الأمر كما ذكرنا، والتمسك بهذه الآية رأيته فى كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، فيقال له: فهذا الاستقلال الذى ذكرته إنما استخرجته من عقلك، فاذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك فى صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذى تمسكت به، ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الاله، فلو توقفت معرفة الاله على معرفة النبوة لزم الدور، وهو محال.

 الشرط الثاني: قوله: {ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت } قال الزجاج: لا تضيق صدورهم من أقضيتك.  واعلم أن الراضى بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به فى الظاهر دون القلب فبين فى هذه الآية انه لا بد من حصول الرضا به فى القلب، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر، فليس المراد من الآية ذلك، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين فى القلب بأن الذى يحكم به الرسول هو الحق والصدق.

 الشرط الثالث: قوله تعالى: {ويسلموا تسليما } واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف فى ذلك القبول، فبين تعالى أنه كما لا بد فى الايمان من حصول ذلك اليقين فى القلب. فلا بد أيضا من التسليم معه فى الظاهر، فقوله: {ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت } المراد به الانقياد فى الباطن، وقوله: {ويسلموا تسليما } المراد منه الانقياد فى الظاهر والله أعلم.

ومن هنا يأتى الإقتفاء الفريد النفيس لمولانا الشيخ محمد عثمان

عبده البرهانى رضى الله عنه فيقول :[وما يفعله إبراهيم قولوا         سمعناه وأنتم مسلمون]

ومما سبق علمنا أيها الأخ الكريم أن ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الحديث وما يفعله النبى صلى الله عليه وسلم فهو الحديث وما يقره صلى الله عليه وسلم فهو الحديث ( قول – فعل – اقرار ) وهذه عند أهل الطريق صفة من صفات الوارث النبوى . ولك أن تتأمل أيها القاريء الكريم فى هذا النظم بعقلك وقلبك , فإذا تأملت قلت سمعنا وأطعنا أيها الوارث الكريم العطوف .ويقول مولانا الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى فى هذا المقام:

[ فعل أهل الله خير لو علمتم             فاقتفوهم نعم أجر العاملين ]

أحمد خليل