الصوفية مبنى ومعنى
التصوف كمعنى عرف فى الصدر الأول من الإسلام، وكمصطلح عرف فى نهاية القرن الأول
الهجرى، إذ أن الإمام الحسن البصرى المتوفى عام 110هـ كان يطلق مصطلح الصوفى على
بعض تلاميذه واشتهر قبل نهاية القرن الثانى الهجرى، وأرسيت أركانه وبين منهجه وذاع
صيته وعرف الناس آدابه وكتب فيه أئمته أمثال المحاسبى والسقطى وأبو تراب النخشبى
وأبو طالب المكى والدارانى وسفيان الثورى والفضيل بن عياض قبل نهاية القرن الثالث
الهجرى، ومن هذا نخلص أن التصوف نشأ واشتهر فى القرون الثلاث الفاضلة ولذلك اعتبره
العارفون من العلوم الإسلامية.
والتصوف فى مفهومه الصحيح كما بينه أئمته منهج سلوكى تربوى قائم على كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، به تتم مكارم الأخلاق ويتم كمال الأدب وبه تدرك الفتوحات
الربانية والأنوار المحمدية.
رد الباحثون التصوف إلى جذره اللغوى وقالوا تصوف يتصوف تصوفا فهو (صوفى) وهم
(صوفية) وتعددت الآراء واختلفت فى مصدر المصطلح وفى أصل التسمية، فمن القوم من قال
سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها وهم فى هذا يردون التسمية إلى
الصفاء، ومن القوم من جعل اشتقاق الصوفية من الصف نظرا إلى أنهم فى الصف الأول بين
يدى الله لارتفاع هممهم إليه وإقبالهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه، ومنهم من
نسبهم إلى أهل الصفة لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ومن القوم من استبعد نسبة التصوف إلى الصفاء والصف
والصفة، باعتبار أن اللغة لا تؤيد هذا الاشتقاق على الرغم من صحة المعانى والدلالات
التى أوردها القائلون بهذا القول، وهذا الأمر الذى جعل الإمام القشيرى صاحب الرسالة
القشيرية المتوفى عام 465 هـ يقول (ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا
اشتقاق والأظهر انه كاللقب ... الخ) ومن القوم من نسب التصوف إلى لبس الصوف ومنهم
أبى نصر السراج الطوسى المتوفى عام 387هـ رحمه الله، وقال السهروردى فى تسميتهم
صوفية للبسهم الصوف وهذا الاختيار يناسب من حيث الاشتقاق إذ يقال تصوف إذا لبس
الصوف وهو يرى أنهم نسبوا إلى ظاهر لبستهم، والصوف لبس الأنبياء والصالحين وشعار
الأولياء الأصفياء كما أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الصوف
وهو علامة الزهد والتقشف، ولإدراك معانى التصوف وتوضيح هذا المنهج وبيان هذا الأمر
نستعرض مقتطفات من أقوال الأئمة والعارفين.
قال الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية الذى وضع قواعد التصوف وبين سلوكياته وآدابه
والمتوفى عام 297هـ رحمه الله: (من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به فى
هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بأصول السنة) وقال أيضا:
(طريقنا
هذا مضبوط بالكتاب والسنة، إذ الطريق مسدود إلا على المقتفين
آثار
رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال السرى السقطى المتوفى عام 257هـ رحمه الله: (التصوف اسم لثلاث معانٍ تقوم
بالصوفى، ألا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن فى علم ينقضه عليه ظاهر
الكتاب والسنة، ولا تحمله الكرامات على هتك استار الله).
وقال
سهل التسترى
المتوفى عام 273هـ رحمه الله:
(أصول
مذهبنا،
يعنى الصوفية ثلاثة: إقتداء بالنبى فى الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص
النية فى جميع الأفعال).
وقال معروف الكرخى المتوفى عام 200هـ رحمه الله: (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما
فى أيدى الخلائق).
وعن أبى الحسن الفرغانى
رحمه الله
قال: سألت أبا بكر الشبلى ما علامة العارف؟ فقال:
(صدره
مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح)
قال: هذه علامة العارف، فمن العارف؟ قال:
(العارف
الذى عرف الله عز وجل على ما ورد فى كتاب الله، وعمل بما أمر الله، وأعرض عما نهى
الله، ودعا عباد الله إلى الله عز وجل)
فقلت: هذا العارف، فمن الصوفى؟ فقال:
(من
صفا قلبه فصفى، وسلك طريق المصطفى، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا)
قلت له: هذا الصوفى،
فما
التصوف؟ قال:
(تعظيم
أمر الله، والشفقة على عباد الله)
قلت له: أحسن من هذا من الصوفى؟ قال:
(من
جفا عن الكدر، وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر، وتساوى عنده الذهب والمدر،
أى التراب).
وقال أبو سليمان الدارانى المتوفى عام 215هـ رحمه الله: (التصوف هو إخفاء المنازلات
والتكتم على الحالات حتى لا يعلم بها إلا رب العالمين).
وقال أبو حفص الحداد المتوفى عام 265هـ رحمه الله: (التصوف هو تمام الأدب).
وقال أبو سعيد الخزار المتوفى عام 268هـ رحمه الله: (الصوفى من صفى ربه قلبه فامتلأ
قلبه نورا، ومن حل فى عين اللذة بذكره الله).
وقال أبو تراب النخشبى المتوفى عام 245هـ رحمه الله واصفا الصوفى قائلا: (الصوفى لا
يكدره شئ ويصفو به كل شئ).
وأيضا قال الإمام الجنيد رحمه الله فى التصوف: (الخروج عن كل خلقٍ دنى، والدخول فى
كل خلق سنى).
وقال الحافظ أبو نعيم
رحمه الله:
(التصوف
أحوال قاهرة، وأخلاق طاهرة تقهرهم الأحوال فتأسرهم، ويستعملون الأخلاق فتطهرهم،
تحلوا بخالص الخدمة، فكفوا عن طوارق الحيرة، وعصموا عن الانقطاع والفترة، لا يأنسون
إلا بالله، ولا يستريحون إلا بحبه، فهم أرباب القلوب المراقبون للمحبوب، والتاركون
للمسلوب، سلكوا مسلك الصحابة والتابعين ومن نحى نحوهم من المتقشفين والمتحققين،
والمميزين بين الإخلاص والرياء، والعارفين بالخطرة والهمة والعزيمة والنية،
والمحاسبين للضمائر، والمحافظين للسرائر، والمخالفين للنفوس، والمحاذرين من الخنوس
بدائم التفكر وقائم التذكر، طلبا للتدانى
وهربا من التوانى،
لا يستهين بحرمتهم إلا مارق، ولا يدعى أحوالهم إلا مائق، ولا يعتقد عقيدتهم إلا
فائق، ولا يحسن إلى موالاتهم إلا تائق، فهم سرج الآفاق، والممدود إلى رؤيتهم
بالأعناق، بهم نقتدى،
وإياهم نوالى إلى يوم التلاق).
وقال الشيخ زكريا الأنصارى
رحمه الله:
(التصوف
علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل
السعادة الأبدية).
وقال الحارث بن أسد المحاسبى المتوفى عام 243هـ رحمه الله: (التصوف إخراج الخلق من
معاملة الله تعالى، والنفس أول الخلق).
وسئل ذا
النون المصرى
المتوفى عام 245هـ رحمه الله
عن الصوفى فقال:
(من
إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق).
وقال أبو بكر الطمستانى
رحمه الله:
(الطريق
واضح، والكتاب والسنة قائمان بين أظهرنا، فمن صحب منا الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه
والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله تعالى، فهو الصادق والمصيب).
وقال رجل لسهل بن عبد الله التسترى
المتوفى عام 273هـ رحمه الله:
(من
أصحبُ من طوائف الناس؟ فقال: عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكبرون ولا يستكثرون).
وسئل الجنيد بن محمد البغدادى
عن
التصوف فقال:
(اسم
جامع لعشرة معان، الأول: التقلل من كل شئ
من الدنيا عن التكاثر فيها، والثانى:
اعتماد القلب على الله عز وجل من السكون إلى الأسباب، والثالث: الرغبة فى الطاعات
من التطوع فى وجود العوافى،
والرابع: الصبر على فقد الدنيا عن الخروج إلى المسألة والشكوى، والخامس: التمييز فى
الأخذ عند وجود الشئ،
والسادس: الشغل بالله عز وجل عن سائر الأشياء، والسابع: الذكر الخفى عن جميع
الأذكار، والثامن: تحقيق الإخلاص فى دخول الوسوسة، والتاسع: اليقين فى دخول الشك،
والعاشر: السكون إلى الله عز وجل من الاضطراب والوحشة، فإذا استجمع هذه الخصال
استحق بها الاسم وإلا فهو كاذب).
وقول ذا النون المصرى المتوفى عام 245هـ رحمه الله: (التصوف إيثار الله على كل شئ
ليؤثرك بكل شئ).
وقال الجنيد
المتوفى عام 297هـ رحمه الله:
(ما
أخذنا التصوف بالقال والقيل، ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والمستحسنات).
وقال
الإمام القشيرى المتوفى عام 465هـ
رحمه الله
فى وصف الطائفة الصوفية:
(فقد
جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه).
ويقول الكلاباذى
رحمه الله:
(وعلى
هذا سماهم قوم جوعية لأن الجوع من صفات القوم وهو من أهم أمور المجاهدة، ومخالفة
النفس وغلبتها، فإن أرباب السلوك قد تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل إلا
عند الضرورة وخشية الضرر، ووجدوا ينابيع الحكمة فى الجوع، لأن الشبع يحرك شهوات
الإنسان ويستثيرها، والجوع يحرك الإنسان إلى الطاعة، وكثرت الحكايات عنهم فى ذلك.
وقيل فى وصفهم:
(لهم
الأحوال الشريفة والأخلاق اللطيفة، مقامهم منيف وسؤالهم ظريف، هم المنبسطون جهرا
المنقبضون سرا، يبسطهم روح الارتياح والاشتياق، ويقلقهم خوف القطيعة والفراق،
والحاكمون بالعدل، هم مصابيح الدجى وينابيع الرشد والحجى، خصوا بخفى الاختصاص،
ونقوا من التصنع بالإخلاص، هم الشغفون به وبوده، والمكلفون بخطابه وعهده، هم
المصونون عن مرافقة حقارة الدنيا بعين الاغترار، المبصرون صنع محبوبهم بالفكر
والاعتبار، إنهم سباق الأمم والقرون، وبإخلاصهم يمطرون وينصرون، وإن ليقينهم تنفلق
الصخور، وبيمينهم تتفتق البحور، إنهم المضرورون فى الأطعمة واللباس، المبرورة
أقسامهم عند النازلة والبأس، نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى بهجتها وزينتها
فوضعوها).
وقيل:
(التصوف
ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة).
وقيل:
(التصوف
الجد فى السلوك إلى ملك الملوك).
وقيل:
(التصوف
قطع العلائق والأخذ بالوثائق).
وقيل:
(التصوف
الانكباب على العمل تطرقا إلى بلوغ الأمل).
وقيل:
(التصوف
الأخذ بالأصول والترك للفضول والتشمير للوصول).
وقيل:
(التصوف
الموافقة للحق والمفارقة للخلق).
و قال
الإمام الشعرانى
رحمه الله
فى كتاب لواقح الأنوار القدسية:
(إياك
أن تقول إن طرق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنة فإنها أخلاق محمدية).
ونذكر بكلام الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله الذى قال: (إنى علمت يقينا أن
الصوفية هم السالكون لطريق الله تبارك وتعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وأن
طريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء
وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه
بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا).
وقال
الإمام
فخر الدين:
(الصوفية
هم أهل الإنشغال بالله جمعوا هم الدنيا وهم الآخرة فى هم واحد هو الإنشغال بذكر
الله والصلاة على حبيبه ومصطفاه فكفاهم الله شر الهموم).
جمعه سيد حداد
|