الإمـام
عـلـي كـرَّم اللـه وجـهـه -
2
قال سيدي الشيخ فخر الدين رضي الله عنه:
وفقِّهتُ من أسرارِه ما لو يشا
سبعينَ راحـلةً بذاك لأوقرا
من علمِه في علمِه وبعلمـِـه
حزتُ الكمالَ ولم أزلْ مدَّثرا
فيه إشارة لكلام الإمام علي كرَّم الله وجهه وذلك أنَّ سيِّدنا ابن
عباسٍ رضي الله تعالى عنهما سأل الإمام عليَّاً عن تفسير سورة
الفاتحة ففسَّرها له يوماً إلى الليل ثمَّ جاءه في اليوم الثاني
ففسَّرها له أيضاً إلى الليل إلى أن أكمل ثلاثة أيام فتعجَّب ابن
عباسٍ رضي الله تعالى عنهما من كثرة علمه فقال له الإمام كرَّم
الله وجهه: لو شئتَ لأوقرتُ لك منها سبعين بعيرا� وقال صلى الله
عليه وسلم: قُسِّمت الحُكمُ (الحكمة) عشرة أجزاء فأُعطِيَ عليٌّ
تسعةَ أجزاء والناس جزءاً واحدا) اشتهر الإمام علي كـرَّم الله
وجـهه بالعـلم حتى سـأله الصـحابة رضي الله عنهم: أخصَّكم رسول
الله صلى الله عليه وسلمبشيء؟ قال: لا ولكن بفهمٍ أدقَّ في كتاب
الله� وجاء في تفسير قوله تعالى {وتعيها أذنٌ واعية} أنها أذن
الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه� وقد وردت الأمثلة كثيرة في هذا ومنه
قول الإمام علي كرَّم الله وجهه في إحدى خطبه: أنزل عليكم أمانان
وقد رُفع أحدهما وبقي الآخر، فأما الأمان الذي رُفع فرسول الله صلى
الله عليه وسلم وأما الأمان الذي بقي فالاستغفار� ثمَّ تلا قوله
تعالى {وما كان الله ليعذِّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذِّبهم
وهم يستغفرون} وقد حدث في عهد الخليفة ذي النورين رضي الله عنه أن
رجلا ادَّعى على امرأته أن حملها ليسَ منه لأنها ولدت لستة أشهر،
فحُكم عليها بالرجم لأنها زانية فالمرأة لا تلد لستة أشهر، ثمَّ
سُئل الإمام علي كرَّم الله وجهه فقال: نعم تلد المرأة لستة أشهر
ثمَّ تلا قوله تعالى {وفصاله في عامين} وقوله تعالى {وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا} واستدلَّ بهذه الآية على صحة الحمل وبراءة
المرأة�وكان له في القضاء قولٌ فصل وقد رجع إليه الخلفاء الأوائل
في كلِّ أمرٍ مُعضل حتى أُثر عن الخليفة عمر رضي الله عنه أنه قال:
قضيَّةٌ ولا أبا حسنٍ لها� وقال: أعوذ من قضيةٍ ليس لها أبو حسن�
وقال للإمام عليٍ مرة: لولاك لافتضحنا�
قصته مع الأنصار
حدث بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن الأنصار طالبوا بحقِّهم في الخلافة في حديث
السقيفة ولما وصل الخبر إلى الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: ما
قالت الأنصار؟ قالوا: قالت الأنصار: منكم أمير ومنا أمير� قال:
فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلموصَّى بأن
يُحسنَ إلى مُحسنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من
الحجَّة عليه؟ قال: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيةُ بهم�
جدله مع الخوارج
بعد اختلاف الخوارج مع
الإمام علي كرَّم الله وجهه أرسل إليهم ابن عباسٍ رضي الله تعالى
عنهما وقال له: لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمَّال أوجه، تقول
ويقولون� فذهب إليهم كما أمره ثمَّ قال لهم: ما تقولون في مرتكب
الكبيرة؟ قالوا: كافر� قال: فما أصلكم في هذا؟ قالوا قوله تعالى:
{ومن يقتلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها وغضب الله
عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيما} فأقبل الإمام علي وقال له: صه
يا بن عباس ألم أنهك عن جدالهم بالقرآن� ثمَّ أقبل عليهم وقال: ما
تقولون في مرتكب الكبيرة؟ قالوا: كافر� قال: سيوفكم على عواتقكم
تضعونها مواضع البرء والسَّقَم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب� وقد
علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المُحصن، ثمَّ
صلَّى عليه ثمَّ ورَّثه أهله، وقتل القاتل وورَّث ميراثَه أهله،
وقطع السارق وجلد الزاني غير المُحصن ثمَّ قسَّم عليهما من الفيء
ونكحا المُسلمات، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلمعليهم
بذنوبهم وأقام حقَّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم
يخرج أسماءهم من بين أهله، ثمَّ أنتم شرار الناس ومن رمى به
الشيطان مراميه� فسكتوا وقد ألزمهم كرَّم الله وجهه الحجَّة مستدلا
بسنَّته صلى الله عليه وسلم�
حواره مع كليب الجرمي
بعد وقعة الجمل وقعت
الشبهات في نفوس أهل البصرة فأرسلوا رجلا يسمَّى كُليباً الجرمي
إلى الإمام علي ليعلم حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من
نفوسهم، فحاوره الإمام علي حتى ألزمه الحجَّة ثمَّ قال له: بايع�
فقال: إنما أنا رسولُ قومٍ ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم� فقال له
الإمام: أرأيتَ لو أنَّ الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط
الغيث، فرجعتَ إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى
المعاطش والمجادب، ما كنتَ صانعا؟ قال: كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى
الكلأ والماء، فقال الرجل: فوالله ما استطعت عند قيام الحجَّة
عليَّ فبايعته رضي الله تعالى عنه�
جاء في كتاب الوصايا لسيدي محي الدين قدَّس الله سرَّه كثيرٌ من علوم
النبوَّة التي خصًّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلمالإمام
عليَّاً كرَّم الله وجهه، وقد نسب إليه كرَّم الله وجهه كثيرٌ من
المغيِّبات وقد أشار إلى هذا في كثيرٍ من خطبه قال: أيها الناس،
سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض
قبل أن تشغَرَ برجلِها فتنةٌ تطأ في خِطامها وتذهب بأحلام قومها�
وقد صدق في قوله فقد شغلوه بالفتن والحروب فلم يستفيدوا منه ولو
تركوه وأطاعوه وسلَّموا له الأمر لاستفادوا منه كثيرا� وقال في
خطبةٍ أخرى: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن
شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئةٍ تَهدي مائةً وتضلُّ مائة
إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومُناخ ركابها ومحطِّ رحالها
ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموتُ منهم موتا�وقد أخبر عن الملاحم
بالبصرة فأخبر عن ثورة الزنج وعن الأتراك قال: يا أحنف كأني به قد
سار بالجيش الذي لا يكون له غبارٌ ولا لجبٌ ولا قعقعة لجم ولا
حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، ويلٌ لسككم
العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم
كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يُندب قتيلُهم ولا يُفتقد
غائبُهم، وفي هذا يذكر الثورة التي وقعت بعد ذلك بزمان طويل
ووصفَهم بأنَّهم حُفاةٌ ليس لهم خيلٌ يركبون عليها� ثم وصف ما
سيكون عليه حال الأتراك وهذا في أواخر دولة بني العبَّاس� قال:
كأني أراهم قوماً كأنَّ وجوههم المجانُ المطرَّقة (الجلود التي
تلصق على الدروع) يلبسون السرق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق�
ويكون استحرارُ قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المُفلت
أقل من المأسور� فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيتَ يا أمير المؤمنين
علم الغيب� فضحك كرَّم الله وجهه وقال: يا أخا كلبٍ ليس هو بعلم
غيب وإنما هو تعلُّم من ذي علم وإنما علم الغيب علم الساعة وما
عدده الله سبحانه بقوله:{إنَّ الله عنده علم الساعة وينزِّل الغيثَ
ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدري نفسٌ
بأي أرضٍ تموت}� فيعلم الله سبحانه وتعالى ما في الأرحام من ذكرٍ
أوأنثى وقبيحٍ أو جميل، وسخيٍّ أو بخيل، وشقيٍّ أو سعيد، ومن يكون
في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذي لا
يعلمه أحدٌ إلا الله وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمه الله نبيَّه
فعلَّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمَّ عليه جوانحي�
وصيَّته لكميل بن زياد
يا كميل بن زياد القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك،
الناس عالمٌ ربَّانيٌّ ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة وهمجٌ رعاعٌ أتباع
كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم
يلجأوا إلى ركنٍ وثيق العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسُك وأنت تحرس
المال، العلم يزكو عل العمل والمال تنقصه النفقة،ومحبَّة العالم
دينٌ يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل
الأحدوثةِ بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّان
الأموال وهم أحياء، العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة،
وأمثالهم في القلوب موجودة، إنَّ هاهنا ـ وأشار إلى صدره الشريف ـ
علماً لو أصبتُ له حملة، بلى أصبته لقنا غير مأمونٍ عليه، يستعمل
آلة الدين للدنيا، يَستظهِرُ بحجج الله على كتابه، وبنعمه على
عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرةَ له في إحيائه، يقتدح الشكُّ
في قلبه لأوَّل عارض شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهومٌ باللذات، سلس
القيادة للشهوات، أو مغرىً بجمع الأموال والادَّخار، وليسا من دعاة
الدين، أقربُ شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموتُ العلم بموت
حامليه، اللهمَّ بلى لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجَّة لئلا تبطلُ
حجج الله وبيِّناته، أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله
قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه
المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ
أرواحها متعلِّقةٌ بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده،
ودعاته إلى دينه، هاهٍ هاهٍ شوقاً إلى رؤيتهم، واستغفر الله لي ولك
إذا شئتَ فقم�
زهده وتعبُّده رضي الله عنه
جاء ابن النبَّاج إلى عليٍّ كرَّم الله وجهه فقال له: يا أمير
المؤمنين، امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء، فقال: الله
أكبر فقام متوكئاً على ابن النبَّاج حتى قام على بيت مال المسلمين
ثمَّ قال: يا بن النبَّاج عليَّ بأشياعِ الكوفة، فنُوديَ في أشياع
الكوفة فقسَّم جميع ما في بيت المال، وهو يقولُ: يا صفراء يا بيضاء
غُرِّي غيري ها وها ! حتى ما بقي منه دينارٌ ولا درهم، ثمَّ أمر
بنضحه وصلى فيه ركعتين�وكان يكنس بيتَ المال ويتخذَه مسجداً رجاءَ
أن يشهد له يوم القيامة�
ووُضع أمامه فالوذج (نوع من الحلوى) فقال يخاطبه: إنك طيِّب الريح، حسن
اللون طيِّب الطعم ولكني أكره أن أعوِّدَ نفسي ما لم تعتده� وكان
كرَّم الله وجهه لا يأكل إلا من طعامٍ يجيئه من مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلملا يأكل من طعام الكوفة� ودخل عليه بعض أصحابه
في الشتاء وهو يرتعد من البرد وليس عليه إلا ثوبٌ رقيق فقال له:
إنَّ الله جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما
تصنع؟ فقال: والله ما أرزأكم من مالكم شيئا وإنها لقطيفتي التي
خرجتُ بها من منزلي بالمدينة� وقيل لأمير المؤمنين: لم ترقع قميصك؟
قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن� ومن أخذ ساداتنا الصوفية لبس
المرقَّعات فهو شيخهم وقدوتهم� وقال لنوف البكالي : (يانوفُ طوبى
للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتَّخذوا
الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثاراً
وشعارا، قرضوا الدنيا على منهاج المسيحِ عليه السلام)�
فطوبى لمن تبع منهجه في ترك الدنيا والإعراض عنها�قال أبو نعيم
الأصبهاني: فالمحققون بمولاة العترة الطيِّبة هم الذُّبل الشفاه،
المُفترشو الجباه، الأذلَّاء في المُفناة، المفارقون لمؤثري الدنيا
من الطغاة، هم الذين خلعوا الراحات، وزهدوا في لذيذ الشهوات،
وأنواع الأطعمة، وألوان الأشربة، فدرجوا على منهاج المسلمين،،
والأولياء من الصدِّيقين، ورغبوا في الزائد الباقي، في جوار المنعم
المفضال، ومُولي الأيادي والنوال�
د.
عبدالله محمد احمد
أولياء الله على أرض مصر
سيدي الشاطبي رضي الله عنه
هو رضي الله عنه القاسم بن فيره بن خلف الرعيني الشاطبي، ولد رضي الله
عنه في آخر عام 538هـ بمدينة شاطبة ببلاد الأندلس، وفقد بصره
وهو حدث صغير، فلما شب تعلم العلوم الدينية، فبدأ بحفظ
القرآن وهو ما زال ببلدته شاطبه، وقرأ القراءات وأتقنها في
فترة وجيزة، إذ أذهل كل من عرفه أو اتصل به�
وقيل عنه أن كان أعجوبة أهل زمانه في الذكاء وسرعة البديهة وأنه لا
يبدو منه ما يدل على أنه ضرير، فكان رضي الله عنه ورعاً
زاهداً عابداً مخلصاً منقطع للعلم والعمل، يتجنب فضول
الكلام، ولا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة�
توفي رضي الله عنه بعد عصر يوم الأحد في 28 جمادى الآخر عام 590هـ وقد
بلغ من العمر 52 عاماً، ودفن رضي الله عنه بمسجده الحالي
المعروف باسمه في الإسكندرية وقد عرف حي الشاطبي باسمه
أيضاً�
إشراف
الشيخ دسوقي الشيخ إبراهيم
السابق
التالي
|
|