السيدة مريم سيدة النساء
والمقصود ههنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام فإن الله
طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ويجوز أن يكون تفضيلها على
النساء مطلقا كما قدمنا وقد ورد في حديث انها تكون من أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم في الجنة هي وآسية بنت مزاحم وقد ذكرنا في
التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله ثيبات وابكارا قال
فالثيب آسية ومن الأبكار مريم بنت عمران وقد ذكرناه في آخر سورة
التحريم فالله أعلم
قال الطبراني حدثنا عبدالله بن ناجية حدثنا محمد بن سعد العوفي
حدثنا أبي أنبأنا عمي الحسين حدثنا يونس بن نفيع عن سعد بن جنادة
هو العوفي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوجني في
الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى وقال الحافظ أبو يعلى
حدثنا ابراهيم بن عرعرة حدثنا عبدالنور بن عبدالله حدثنا يونس بن
شعيب عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعرت أن
الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى رواه
ابن جعفر العقيلي من حديث عبدالنور به وزاد فقلت هنيأ لك يا رسول
الله ثم قال العقيلي وليس بمحفوظ وقال الزبير بن بكار حدثني محمد
بن الحسن عن يعلى بن المغيرة عن ابن أبي داود قال دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال
لها بالكره مني ما أرى منك يا خديجة وقد يجعل الله في الكره خيرا
كثيرا أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران
وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون قالت وقد فعل الله بك ذلك يا
رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين وروى ابن عساكر من حديث
محمد بن زكريا الغلابي حدثنا العباس بن بكار حدثنا أبو
بكر الهزلي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال يا خديجة اذا لقيت ضرائرك
فاقرئهن مني السلام قالت يا رسول الله وهل تزوجت قبلي قال لا ولكن
الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى وروى
ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد حدثنا محمد بن صالح بن عمر عن
الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال نزل جبريل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ
مرت خديجة فقال جبريل من هذه يا محمد قال هذه صديقة أمتي قال جبريل
معي اليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في
الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب قالت الله السلام
ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ما
ذلك البيت الذي من قصب قال لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران
وبيت آسية بنت مزاحم وهما من أزواجي يوم القيامة وأصل السلام على
خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب
في الصحيح ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا وكل من هذه
الأحاديث في أسانيدها نظر وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة
الدمشقي حدثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية عن صفوان بن عمرو عن
خالد بن معدان عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة يعني صخرة
بيت المقدس فقال الصخرة على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة
وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة
حتى تقوم الساعة ثم رواه من طريق اسماعيل عن عياش عن ثعلبة بن مسلم
عن مسعود عن عبدالرحمن عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت عن
النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا منكر من هذا الوجه بل هو
موضوع قد رواه أبو زرعة عن عبدالله بن صالح عن معاوية عن مسعود بن
عبدالرحمن عن ابن عابد أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس
فذكره قال الحافظ بن عساكر وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه قلت
وكلام كعب الأحبار هذا إنما تلقاه من الاسرائيليات التي منها ما هو
مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم وهذا منه والله أعلم
ميلاد
العبد الرسول عيسى بن مريم البتول
قال الله تعالى واذكر في الكتاب مريم اذا انتبذت من أهلها مكانا
شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا
سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك
لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك
بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا
وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فاجاءها المخاض إلى
جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من
تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحت سريا وهزي إليك بجذع النخلة
تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر
أحدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا فاتت به
قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان
أبوك أمرء سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من
كان في المهد صبيا قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا
وجعلني مباركا اينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا
بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت
ويوم أبعث حيا ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه اذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون وان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب
من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة
قبلها كما ذكر في سورة آل عمران قرن بينهما في سياق واحد وكما قال
في سورة الأنبياء وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير
الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا
يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي
أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وأنه
كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام وأنه
اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها
سواه وانها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان
نظيرها في فنون العبادات وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا
عليه السلام وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها
وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا
بالمعجزات فتعجبت من وجود ولد من غير والد لأنها لا زوج لها ولا هي
ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى
أمرا فإنما يقول له كن فيكون فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لأمر الله
وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها فإن الناس يتكلمون فيها بسببه
لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر وانما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير
تدبر ولا تعقل وكانت انما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة
ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء فبينما هي يوما قد
خرجت لبعض شؤونها وانتبذت أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى اذ
بعث الله اليها الروح الأمين جبريل عليه السلام فتمثل
لها بشرا سويا فلما رأته قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا
قال أبو العالية علمت أن التقي ذو نهية وهذا يرد قول من زعم أنه
كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي فإن هذا قول
باطل بلا دليل وهو من أسخف الأقوال قال انما أنا رسول ربك أي
خاطبها الملك قائلا انما أنا رسول ربك لست ببشر ولكني ملك بعثني
الله اليك ليهب لك غلاما زكيا أي ولدا زكيا قالت أنى يكون لي غلام
أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا أي
ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة قال كذلك قال ربك هو على
هين أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه
قائلا كذلك قال ربك أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا
تكونين ممن تبغين هو علي هين أي وهذا سهل عليه ويسير لديه فإنه على
ما يشاء قدير وقوله ولنجعله آية للناس أي ولنجعل خلقه والحالة هذه
دليلا على كمال قدرتنا على أنواع الخلق فإنه تعالى خلق آدم من غير
ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر
وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى وقوله ورحمةمنا أي نرحم به العباد
بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته
بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ
الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد وقوله وكان
أمرا مقضيا يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعني ان هذا
أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره وهذا معنى قول محمد بن اسحاق
واختاره ابن جرير ولم يحك سواه والله أعلم ويحتمل أن يكون قوله
وكان أمرا مقضيا كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى ومريم ابنة
عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا فذكر غير واحد من
السلف ان جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من
فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها ومن قال انه نفخ في فمها أو
أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها فقوله خلاف ما
يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن فإن هذا السياق يدل
على أن الذي أرسل اليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام
وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت
النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه كما قال تعالى فنفخنا فيه من روحنا
يدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها كما روى عن أبي بن كعب ولا
في صدرها كما رواه السدي بإسناده عن بعض الصحابة ولهذا قال تعال
فحملته أي حملت ولدها فانتبذت به مكانا قصيا وذلك لأن مريم عليها
السلام لما حملت ضاقت به ذرعا وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم
كلام في حقها فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه انها لما
ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني
إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار وكان ابن خالها فجعل يتعجب
من ذلك عجبا شديدا وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو
مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال
يا مريم هل يكون زرع
من غير بذر قالت نعم فمن خلق الزرع الأول ثم قال فهل يكون شجر من
غير ماء ولا مطر قالت نعم فمن خلق الشجر الأول ثم قال فهل يكون ولد
من غير ذكر قالت نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى قال لها
فأخبريني خبرك فقالت إن الله بشرني بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن
مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد
وكهلا ومن الصالحين ويروي مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها
فأجابته بمثل هذا والله أعلم
|