وحياة النبى...
تحقيق حول الحلف بالله في الكتاب والسنه
فى أوائل شهر الله الحرام رجب وبالتحديد فى الجمعة الأولى منه كانت
بداية حمل السيدة آمنة بنت وهب بسيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفى هذه الليلة العظيمة نودى فى جميع الأرض والسموات يا عرش
تبرقع بالوقار، يا كرسى تذرع بالفخار، يا سدرة المنتهى ابتهجى، يا
جنان تزخرفى، يا حور من القصور اشرفى، يا ملائكة الله اصطفى
وتمنطقى بالعرش، يا رضوان افتح أبواب الجنان وزين الحور والولدان
وأطلق مجارى الطيب وعطر الأكوان، يا مالك أغلق أبواب النيران، فإن
النور المكنون والسر المصون المخزون فى خزائن قدرتى، فى هذه الليلة
من عبد الله ينفصل وإلى آمنة يتصل وإلى أحشائها فى هذه الساعة
ينتقل، ولم يبق فى تلك الليلة دار ولا مكان إلا ودخله نور ولا دابة
إلا نطقت وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورب الكعبة هو
أمان الدنيا وسراج أهلها.
هذا النداء عند انتقال النطفة الطاهرة إلى السيدة آمنة، أما عن أصل
نسبه صلوات ربى وسلامه عليه فقد أخرج البيهقى فى دلائل النبوة عن
أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ﴿ما افترق الناس فرقتين
إلا جعلنى الله فى خيرهما، فأخرجت من بين أبوى، فلم يصبنى شئ من
عهد الجاهلية، وخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى
انتهيت إلى أبى وأمى، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا﴾ أخرجه ابن عساكر
وذكره السيوطى.
وأخرج البخارى فى صحيحه والإمام أحمد عن أبى هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ﴿بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا،
حتى بعثت من القرن الذى كنت فيه﴾.
وأخرج أبو نعيم فى دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ﴿لم يزل الله ينقلنى من الأصلاب الطيبة
إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا، لا تنشعب شعبتان إلا كنت فى
خيرهما﴾ وللسيوطى فى الدر المنثور.
وأخرج مسلم والترمذى وصححه عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ﴿إن الله اصطفى من ولد إبراهيم اسماعيل، واصطفى
من ولد اسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من
قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم﴾ وقد أخرجه الحافظ أبو القاسم
حمزة بن يوسف السهمى فى فضائل العباس من حديث واثلة بلفظ ﴿إن الله
اصطفى من ولد آدم إبراهيم واتخذه خليلا، واصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزارا، ثم اصطفى من ولد نزار
مضر، ثم اصطفى من مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من
قريش بنى هاشم، ثم اصطفى من بنى هاشم بنى عبد المطلب، ثم اصطفانى
من بنى عبد المطلب﴾ أورده المحب الطبرى فى ذخائر العقبى.
وأخرج السيوطى فى الدر المنثور وابن سعد فى طبقاته عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿خير العرب مضر، وخير مضر
بنو عبد مناف وخير بنى مناف بنو هاشم، وخير بنى هاشم بنو عبد
المطلب، والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله آدم إلا كنت فى
خيرهما﴾.
وأخرج الطبرانى والبيهقى وأبو نعيم عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ﴿إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بنى آدم
واختار من بنى آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا
واختار من قريش بنى هاشم واختارنى من بنى هاشم، فأنا من خيار إلى
خيار إلى خيار﴾.
وأخرج الترمذى وحسنه والبيهقى عن ابن عباس بن عبد المطلب قال: قال
رسول الله عليه الصلاة والسلام ﴿إن الله حين خلقنى جعلنى من خير
خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلنى من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس
جعلنى من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلنى من خير بيوتهم، فأنا
خيرهم بيتا وخيرهم نفسا﴾.
وأخرج الطبرانى والبيهقى وأبو نعيم عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ﴿إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلنى فى خيرهما
قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلنى فى خيرها ثلثا، ثم جعل الأثلاث
قبائل فجعلنى فى خيرها (قبيلة) ثم جعل القبائل بيوتا فجعلنى فى
خيرها بيتا﴾.
وأخرج أبو على بن شاذان فيما أورده المحب الطبرى فى ذخائر العقبى،
وهو فى مسند البزار عن ابن عباس قال ﴿دخل ناس من قريش على صفية بنت
عبد المطلب، فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفية: منا
رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالوا تنبت النخلة أو الشجرة من
الكبا، فذكرت ذلك صفية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فغضب وأمر
بلالا فنادى فى الناس، فقام على المنبر فقال: أيها الناس من أنا؟
قالوا رسول الله، قال: انسبونى، قالوا محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب، قال: فما بال أقوام ينزلون أصلى؟ فوالله إنى لأفضلهم أصلا
وخيرهم موضعا﴾ أخرجه الإمام أحمد وابن أبى شيبة والهيثمى فى
المجمع.
وأخرج الحاكم عن ربيعة بن الحارث قال: بلغ النبى عليه الصلاة
والسلام أن قوما نالوا منه، فقالوا: إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت
فى كناس، فغضب النبى عليه الصلاة والسلام وقال ﴿إن الله خلق خلقه
فجعلهم فرقتين، فجعلنى فى خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلنى فى
خيرهم قبيلا، ثم جعلهم بيوتا فجعلنى فى خيرهم بيتا، ثم قال: أنا
خيركم قبيلا وخيركم بيتا﴾ أخرجه الحاكم والبيهقى والسيوطى فى جمع
الجوامع والدر المنثور.
وأخرج الطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى الدلائل عن عائشة قالت: قال
رسول الله عليه الصلاة والسلام ﴿قال لى جبريل: قلبت الأرض مشارقها
ومغاربها، فلم أجد رجلا أفضل من محمد، ولم أجد بنى أب أفضل من بنى
هاشم﴾ قال الحافظ بن حجر فى أماليه: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات
هذا المتن، ومن المعلوم أن الخيرية والاصطفاء والاختيار من الله
والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك.
وبعد هذا كله من نداء العلى الأعلى ومن شرح الحبيب لأصله ونسبه نجد
أناس ليس لهم فى الفتوى باع ولا فى الدين نصيب، يملأون أفواههم
بكلمة (حرام تحلف بالنبى) وهذا إن دل على شئ إنما يدل على جهل
بأطوار الدين بين الخلق، فقد جاء الإسلام وأهل الجاهلية يحلفون
بآلهتهم على سبيل العبادة والتعظيم، مضاهاة لله سبحانه وتعالى عما
يشركون، كما قال عز وجل واصفا لحالهم {ومن الناس
من
يتخذ
من
دون
الله أندادا
يحبونهم
كحب
الله والذين
آمنوا
أشد
حبا
لله
ولو
يرى
الذين
ظلموا
إذ
يرون العذاب
أن
القوة
لله
جميعا
وأن
الله شديد
العذاب} فنهى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك حماية لجناب
التوحيد فقال صلى الله عليه وسلم (من حلف فقال فى حلفه واللات
والعزى فليقل لا إله إلا الله) كما قال أيضا صلى الله عليه وسلم
(من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) أى قال قولا شابه به المشركين
لأنه خرج بذلك من الملة والعياذ بالله، فإن العلماء متفقون على أن
الحالف بغير الله لا يكون كافرا حتى يعظم ما يحلف به كتعظيم الله
تعالى، وكفره حينئذ من جهة هذا التعظيم لا من جهة الحلف نفسه.
علة النهى
وكذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الجاهلية فى
حلفهم بآبائهم، افتخارا بهم وتقديسا لهم، وتقديما لأنسابهم على
أخوة الإسلام جاعلين ولاءهم وعداءهم على ذلك، فقال صلى الله عليه
وسلم (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف
بالله وإلا فليصمت) وعلة هذا النهى قد بينها صلى الله عليه وسلم فى
حديث آخر بقوله صلوات ربى وسلامه عليه (لينتهين أقوام يفتخرون
بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من
الجعل الذى يدهده الخراء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية
الجاهلية، إنما هو مؤمن تقى وفاجر شقى، الناس كلهم بنو آدم خلق من
تراب) وكما قال تعالى {فإذا
قضيتم
مناسككم فاذكروا
الله كذكركم آباءكم
أو
أشد
ذكرا} قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يقفون فى الموسم، فيقول
الرجل منهم: كان أبى يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر غير أفعال
آبائهم.
وفيما روى البيهقى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا فى الجاهلية، فوالذى نفسى
بيده لما يدهده الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا فى
الجاهلية) أخرجه الإمام أحمد والطبرانى.
وروى البيهقى أيضا عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال
(إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء لينتهين
أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على
الله من الجعلان التى تدفع النتن بأنفها) أخرجه الإمام أحمد وأبو
داوود.
والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة، وأوضح من ذلك أن البيهقى أورد فى
شعب الإيمان حديث مسلم (إن فى أمتى أربعا من أمر الجاهلية ليسوا
بتاركيهن: الفخر فى الأحساب – الحديث)
ورغم ذلك فقد انتسب النبى صلى الله عليه وسلم إلى آباءه يوم حنين
فقال (أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب) أخرجه الإمام البخارى
فى صحيحه والبيهقى فى شعب الإيمان.
لأن الأحاديث وردت فى النهى عن الانتساب إلى الآباء الكفار.
وروى البيهقى أيضا عن أبى ريحانة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال
(من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وشرفا فهو عاشرهم فى
النار) ذكره السيوطى فى جمع الجوامع والهندى فى كنز العمال.
وقال عقبة: فإن عورض هذا بحديث النبى صلى الله عليه وسلم فى
اصطفائه من بنى هاشم فقد قال الحليمى: لم يرد بذلك الفخر، إنما
أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم، كرجل يقول: كان أبى فقيها،
لا يريد به الفخر، وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه، قال: وقد
يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه فى نفسه وآبائه على وجه
الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر فى شئ.
فإن الحلف بما هو معظم فى الشرع
كحضرة
النبى صلى الله عليه وسلم والإسلام والكعبة فلا مشابهة فيه لحلف
المشركين بوجه من الوجوه، وإنما منعه من منعه من العلماء آخذا
بظاهر عموم النهى عن الحلف بغير الله، وأجازه من أجازه كالإمام
أحمد
رضى الله عنه
فى أحد قوليه وتعليله ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركنى
الشهادة التى لا تتم إلا به، لأنه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى
بل تعظيمه بتعظيم الله له، وظاهر عموم النهى عن الحلف بغير الله
تعالى غير مراد قطعا لإجماعهم على جواز الحلف بصفات الله تعالى،
فهو عموم أريد به الخصوص.
أحاديث
القسم
بغير الله
قال ابن المنذر
فى
فتح البارى
لابن حجر (اختلف أهل العلم فى معنى النهى عن الحلف بغير الله،
فقالت طائفة: هو خاص بالأيمان التى كان أهل الجاهلية يحلفون بها
تعظيما لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف
بها ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله: وحق
النبى
صلى الله عليه وسلم،
والإسلام، والحج،
والعمرة، والهدى، والصدقة، والعتق، ونحوها مما يراد به تعظيم الله
والقربة إليه فليس داخلا فى النهى، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة
أخرى،
واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق، والهدى،
والصدقة وما أوجبوه مع كونهم رأوا النهى المذكور، فدل على أن ذلك
عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه
شيئا).
أما عن الترجى أو تأكيد الكلام بالنبى صلى الله عليه وسلم أبو
بغيره مما لا يقصد به حقيقة الحلف فغير داخل فى النهى أصلا، بل هو
أمر جائز لا حرج فيه حيث ورد فى كلام
حضرة
النبى صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة الكرام،
ومن
ذلك ما رواه
سيدنا
أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله أى الصدقة أعظم أجرا؟ فقال صلى الله عليه وآله
وسلم (أما وأبيك لتنبأنه، أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل
البقاء) أخرجه
الإمام
أحمد فى المسند ومسلم فى صحيحه.
وحديث الرجل النجدى الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الإسلام.
وفى آخره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلح وأبيه إن صدق)
وفى رواية (دخل الجنة وأبيه إن صدق) أخرجه مسلم فى صحيحه وأبو داود
فى سننه.
وأيضا
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله نبئنى بأحق الناس منى بحسن الصحبة، فقال
صلى الله عليه وسلم (نعم وأبيك لتنبأن، أمك) أخرجه مسلم فى صحيحه
وابن ماجه.
وعن أبى العشراء
الدارمى
عن أبيه قال: قال:
يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلى فى الحلق أو اللبة؟ قال (وأبيك
لو طعنت فى فخذها لأجزأ
عنك) رواه الإمام أحمد فى مسنده والبيهقى فى سننه الكبرى.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بطعام من خبز ولحم فقال
صلى الله عليه وسلم (ناولنى الذراع) فنوول ذراعا فأكلها، ثم قال
صلى الله عليه وسلم (ناولنى الذراع) فنوول ذراعا فأكلها، ثم قال
صلى الله عليه وسلم (ناولنى الذراع) فقال: يا رسول الله، إنما هما
ذراعان! فقال صلى الله عليه وسلم (وأبيك لو سكت مازلت أناول منها
ذراعا ما دعوت به) أخرجه
الإمام
أحمد فى مسنده وذكره أبو بكر الهيثمى فى مجمع الزوائد.
وجاء فى قصة الأقطع الذى سرق عقدا للسيدة أسماء بنت عميس رضى الله
عنها أن
سيدنا
أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال له (وأبيك ما ليلك
بليل سارق) أخرجه الإمام مالك فى الموطأ والبيهقى فى الكبرى
والشافعى فى مسنده.
وفيما
رواه البزار
والهيتمى فى مجمع الزوائد باب فيمن
أحسن القتال يوم أحد عن جابر قال: دخل على
رضى
الله عنه على فاطمة رضى
الله عنها يوم أحد فقال:
فلست برعديد ولا بلئـيم
ومرضاة رب بالعباد عليم |
|
أفاطم هاك السيف غـير ذميـم
لعمرى
لقد أبليت فى
نصر أحمد |
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إن
كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وابن الصمة،
وذكر آخر فنسبه معلى فقال جبريل عليه السلام: يا محمد هذا وأبيك
المواساة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل
إنه منى،
فقال جبريل : وأنا منكما).
وثبت فى الصحاح أن
زوجة الصديق
قالت له (لا وقرة عينى لهى الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات)
وكانت تعنى طعام أضيافه. أخرجه
الإمام
أحمد فى مسنده والبخارى
ومسلم
فى صحيحهما.
وبناء على ذلك فإن الترجى أو تأكيد الكلام بسيدنا النبى صلى الله
عليه وسلم أو الصالحين أو غير ذلك هو أمر مشروع لا حرج على فاعله
لوروده فى كلام
حضرة
النبى صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة، وجريان عادة الناس عليه
بما لا يخالف الشرع الشريف، وليس هو حراما ولا شركا ولا ينبغى
للمسلم أن يتقول على الله بغير علم حيث يقول تعالى {ولا
تقولوا
لما
تصف
ألسنتكم الكذب
هذا
حلال وهذا
حرام
لتفتروا
على
الله الكذب إن
الذين
يفترون
على
الله الكذب
لا
يفلحون} ولا يجوز للعاقل أن يتهم إخوانه بالكفر والشرك فيدخل بذلك
فى وعيد قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها
أحدهما).
ولذا ...
قال
الإمام أبا الحسن الماوردى فى كتابه (أعلام النبوة) لما كان أنبياء
الله صفوة عباده وخيرة خلقه لما كلفهم من القيام بحقه والإرشاد
لخلقه استخلصهم من أكرم العناصر، واجتباهم بمحكم الأواصر، فلم يكن
لنسبهم من قدح، ولمنصبهم من جرح، لتكون القلوب لهم أصفى، والنفوس
لهم أوطا، فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ولأوامرهم أطوع، وأن الله
استخلص رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح، وحماه من دنس
الفواحش، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة، وقد قال ابن عباس
فى تأويل قول الله
{وتقلبك فى الساجدين}
أى تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبيا، فكان نور
النبوة ظاهرا فى آبائه، ثم لم يشركه فى ولادته من أبويه أخ ولا أخت
لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصا بنسب جعله
الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية، فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل
فيه، فلذلك مات عنه أبواه فى صغره، فأما أبوه فمات وهو حمل، وأما
أمه فماتت وهو ابن ست سنين، وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده
علمت أنه سلالة آباء كرام، ليس فى آبائه مسترذل ولا مغموذ مستبذل،
بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة.
انتهى كلام الماوردى بحروفه.
وقال أبو جعفر النحاس فى معانى القرآن فى قوله
{وتقلبك فى الساجدين}
روى عن ابن عباس أنه قال: تقلبه فى الظهور حتى أخرجه نبيا.
وما أحسن قول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى رحمه الله
تعالى:
تنقل أحمد نورا عظيما
تقلب فيهم قرنا فقرنـا |
|
تلألأ فى جباه الساجـديـنا
إلى أن جاء خير المرسلينا |
وقال أيضا:
حفظ الإله كرامة لمـحـمـد
تركوا السفاح فلم يصبهم عاره |
|
آباءه الأمجاد صونا لاسمه
من آدم حتى أبيـه وأمـه |
وقال الشرف البوصيرى صاحب البردة:
كيف ترقى رقيك الأنــبياء
لم يساووك فى علاك وقد حا
إنما مثلوا صفاتك للنــــا
أنت مصباح كل فضل فما تعد
لك ذات العلوم من عالم الغيـ
لم تزل فى ضمائر الغيب تختا
ما مضت فترة من الرسل إلا
تتناهى بك العصور وتسـمو
وبدا للوجود منك كريـــم
نسب تحسب العلا بحـــلاه |
|
يا سماء ما طاولتها سـمـاء
ل سنى منك دونهم وسـنـاء
س كما مثل النجوم الـمـاء
بدر إلا عن ضوئك الأضواء
ـب،
ومنها لآدم الأسمــاء
ر لك الأمهـات والآبـــاء
بشرت قومها بك الأنبيــاء
بك علياء بعدها عليـــاء
من كريم آباؤه كرمــــاء
قلدتها نجومها الجـــوزاء |
ومنها:
فهيا به لآمـنـة الـفـضـ
من لحواء أنها حملت أحـ
يوم نالت بوضعه إبنة وهب
وأتت قومها بأفضل مـمـا |
|
ـل الذى شرفت به حواء
مد أو أنها به نفــسـاء
من فخار ما لم تنله النساء
قد أتت قبل مريم العذراء |
قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا أبى ثنا موسى بن أيوب النصيبى
ثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: بين النبى صلى الله عليه
وسلم وبين آدم تسعة وأربعون أبا.
والأمر الثالث: أثر ورد فى أم النبى صلى الله عليه وسلم خاصة،
فقد
أخرج أبو نعيم فى دلائل النبوة من طريق الزهرى عن أم سماعه بنت أبى
رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى
علتها التى ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت
إلى وجهه ثم قالت:
بارك الله فـيك مـن غلام
نجا بعون الملك المـنعـام
بمائـة مـن إبـل سـوام
فأنت مبعوث إلى الأنــام
تبعث فى الحل وفى الحرام
دين أبيك البر إـبراهــام |
|
يا ابن الذى من حومة الحـام
فودى غداة الضرب بالسهـام
إن صح ما أبصرت فى المنام
من عند ذى الجلال والإكرام
تبعث بالتـحقيق والإسـلام
فالله أنهاك عـن الأصـنـام |
أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حى ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكرى
باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت، فكنا نسمع نوح الجن
عليها، فحفظنا من ذلك:
تبكى الفتاة البرة الأمينـة
زوجة عبد الله والقرينـة
وصاحب المنبر بالمديـنة |
|
ذات الجمال العفة الرزينـة
أم نبى الله ذى السكيـنـة
صارت لدى حفرتها رهينة |
فأنت ترى هذا الكلام منها صريحا فى النهى عن موالاة الأصنام مع
الأقوام، والاعتراف بدين إبراهيم وببعث ولدها إلى الأنام، من عند
ذى الجلال والإكرام بالإسلام، وهذه الألفاظ منافية للشرك.
وقولها (تبعث بالتحقيق) كذا هو فى النسخة، وعندى أنه تصحيف، و إنما
هو بالتخفيف.
ثم إنى استقرأت أمهات الأنبياء عليهم السلام فوجدتهن مؤمنات، فأم
إسحاق وموسى وهارون وعيسى وحواء أم شيث مذكورات فى القرآن، بل قيل
بنبوتهن، ووردت الأحاديث بإيمان هاجر أم إسماعيل وأم يعقوب وأمهات
أولاده وأم داود وسليمان وزكريا ويحيى وشمويل وشمعون وذى الكفل،
ونص بعض المفسرين على إيمان أم نوح وأم إبراهيم، ورجحه أبو حيان فى
تفسيره، وقد تقدم عن ابن عباس أنه لم يكن بين نوح وآدم والد كافر،
ولهذا قال
{رب
اغفر
لى
ولوالدى
ولمن
دخل
بيتى مؤمنا}.
وقال إبراهيم
{ربنا
اغفر
لى
ولوالدى وللمؤمنين
يوم
يقوم الحساب}
ولم يعتذر عن استغفار إبراهيم فى القرآن إلا لأبيه خاصة دون أمه،
فدل على أنها كانت مؤمنة، وأخرج الحاكم فى المستدرك وصححه عن ابن
عباس قال: كانت الأنبياء من بنى إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ومحمد عليهم السلام،
وبنو إسرائيل كلهم كانوا مؤمنين، لم يكن فيهم كافر، إلى أن بعث
عيسى، فكفر به من كفر، فأمهات الأنبياء الذين من بنى إسرائيل كلهن
مؤمنات، وأيضا فغالب أنبياء بنى إسرائيل كانوا أولاد أنبياء أو
أولاد أولادهم، فإن النبوة كانت تكون فى سبط منهم يتناسلون كما هو
معروف فى أخبارهم، وأما العشرة المذكورون من غير بنى إسرائيل فقد
ثبت إيمان أم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وبقى أم هود
وصالح ولوط وشعيب يحتاج إلى نقل أو دليل، والظاهر -إن شاء الله
تعالى- إيمانهن، فكذلك أم النبى صلى الله عليه وسلم، وكأن السر فى
ذلك ما يرينه من النور، كما ورد فى الحديث.
أخرج أحمد والبزار والطبرانى والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ﴿إنى عبد الله وخاتم النبيين،
وإن آدم لمنجدل فى طينته وسأخبركم عن ذلك دعوة أبى إبراهيم وبشارة
عيسى ورؤيا أمى التى رأت﴾ وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أم رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام،
ولا شك أن الذى رأته أم النبى صلى الله عليه وسلم فى حال حملها به
وولادتها له من الآيات أكثر وأعظم مما رآه سائر أمهات الأنبياء،
كما سقنا الأخبار بذلك فى كتاب المعجزات، وقد ذكر بعضهم أنه لم
ترضعه مرضعة إلا أسلمت، قال: ومرضعاته أربع: أمه وحليمة السعدية
وثويبة وأم أيمن.
وقال الشهرستانى فى الملل والنحل: ظهر نور النبى صلى الله عليه
وسلم فى أسارير عبد المطلب، وببركة ذلك النور ألهم النذر فى ذبح
ولده، وببركته كان يأمر ولده بترك الظلم والبغى، ويحثهم على مكارم
الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور، وببركة ذلك النور كان يقول فى
وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة،
إلى أن هلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب فى ذلك، ففكر
وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه
ويعاقب فيه المسئ بإساءته، وببركة ذلك النور قال لأبرهة: إن لهذا
البيت رب يحفظه، ومنه قال وقد صعد أبا قبيس:
ـنع حله فامـنع حلالك
ومحــالهم غدرا محالك
ـبتنا فأمـر ما بـدا لك
وعابـديـه الـيـوم آلك |
|
لا هم إن الـمـرء يمـ
لا يغــلبن صليـبهـم
إن كنت تاركهم وكـعـ
وانصر على آل الصليب |
ويناسق ما ذكره ما أخرجه ابن سعد فى طبقاته عن ابن عباس قال: كانت
الدية عشرا من الإبل، وعبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من
الإبل، فجرت فى قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرها رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ونختم بقول الحق سبحانه وتعالى حين أقسم بحياة الحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم فقال {لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون} فقد أورد ابن
كثير فى تفسير هذه الآية قائلا: أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله
وسلامه عليه وفى هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض، قال عمرو بن
مالك البكرى عن أبى الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله وما
ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت
الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى {لعمرك إنهم لفى سكرتهم
يعمهون} يقول وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا {إنهم لفى سكرتهم
يعمهون} رواه ابن جرير.
لجنة تحقيق التراث
|