قصص
روى زياد عن مالك بن أنس رضى الله تعالى عنه قال: لما بعث أبو جعفر
إلى مالك بن أنس وابن طاوس قال: دخلنا عليه وهو جالس على فرش، وبين
يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ
إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق زمنا طويلا ثم رفع رأسه والتفت إلى
ابن طاوس وقال: حدثنى عن أبيك،
قال: سمعت أبى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد
الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى فى ملكه، فأدخل عليه
الجور فى حكمه" فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه قال:
مالك؟ فضممت ثيابى مخافة أن ينالها شئ
من دم ابن طاوس، ثم قال: يا ابن طاوس ناولنى هذه الدواة،
فأمسك عنه، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها، قال: أخاف أن تكتب بها
معصية، فأكون شريكك فيها،
فلما سمع ذلك قال: قوما عنى،
فقال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغ،
قال: مالك، فمازلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم.
وقال الفضل بن الربيع: بينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب،
فقلت: من هذا؟ فقيل:
أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعا، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت
إلى أتيتك، فقال: ويحك قد حاك فى نفسى شئ
لا يخرجه إلا عالم، فانظر إلىّ
رجل أسأله عنه، فقلت: ههنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه،
فأتيناه، فقرعت عليه الباب، فقال:
من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا، فقال: يا أمير
المؤمنين لو أرسلت إلىّ
أتيتك، فقال: جد لما جئنا له، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟
قال: نعم،
فقال: يا أبا العباس اقض دينه ثم انصرفنا،
فقال: ما أغنى عنى صاحبك شيئا، فانظر لى رجلا أسأله، فقلت ههنا عبد
الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت عليه الباب،
فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا، فقال: يا أمير
المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك، فقال جد لما جئنا به، فحادثه ساعة،
ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم،
فقال: يا أبا العباس اقض دينه، ثم انصرفنا،
فقال: ما أغنى عنى صاحبك شيئا، فانظر لى رجلا أسأله، فقلت ههنا
الفضيل بن عياض، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلى
فى غرفته يتلو آية من كتاب الله تعالى وهو يرددها، فقرعت عليه
الباب، فقال:
من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لى ولأمير المؤمنين،
فقلت: سبحان الله أما تجب عليك طاعته؟ ففتح الباب ثم ارتقى إلى
أعلى الغرفة، فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة،
فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفى إليه، فقال: أواه
من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله تعالى،
فقلت فى نفسى ليكلمنه الليلة بكلام نقى من قلب نقى،
فقال: جد لما جئنا له رحمك الله تعالى، فقال: وفيم جئت حملت على
نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصا
من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك،
ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه لما ولى الخلافة دعا
سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظى
ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إنى قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا على،
فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال سالم بن عبد
الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن
إفطارك فيها على الموت. وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة غدا من
عذاب الله تعالى، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا،
وأصغرهم عندك
ولدا، فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك،
وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله تعالى، فأحب
للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت،
وإنى لأقول هذا، وإنى لأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام،
فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء القوم من يأمرك بمثل هذا،
فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشى عليه، فقلت له: ارفق
بأمير
المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك، وأرفق به أنا،
ثم أفاق هارون الرشيد، فقال: زدنى،
فقال يا أمير المؤمنين بلغنى أن عاملا لعمر بن عبد العزيز رضى الله
عنه شكا إليه سهرا، فكتب له عمر يقول: يا أخى اذكر سهر أهل النار
فى النار وخلود الأبدان، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان،
وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل،
فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك، فلما قرأ كتابه طوى البلاد
حتى قدم عليه، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فقال له: لقد خلعت قلبى
بكتابك لا وليت ولاية أبدا حتى ألقى الله عز وجل، فبكى هارون
الرشيد بكاء شديدا، ثم قال: زدنى،
قال يا أمير المؤمنين إن العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم جاء
إليه، فقال يا رسول الله أمرنى إمارة، فقال له النبى صلى الله عليه
وسلم: "يا عباس، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها،
إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا
فافعل، فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا، ثم قال: زدنى يرحمك الله،
فقال: يا حسن الوجه أنت الذى يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة،
فإن استطعت أن تقى هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسى
وفى قلبك غش لرعيتك، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح
لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة" فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا، ثم
قال له: أعليك دين؟ قال: نعم دين لربى يحاسبنى عليه، فالويل لى إن
ناقشنى،
والويل إن سألنى،
والويل لى إن لم يلهمنى حجتى،
قال هارون: إنما أعنى دين العباد،
قال: إن ربى لم يأمرنى بهذا، أو إنما أمرنى أن أصدق وعده وأطيع
أمره،
قال تعالى
{وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
فقال له هارون: هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها على عيالك وتقو بها
على عبادة ربك، فقال: سبحان الله أنا دللتك على سبيل الرشاد
تكافئنى أنت بمثل هذا سلمك الله ووفقك، ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا
من عنده، فقال لى هارون: إذا دللتنى على رجل فدلنى على مثل هذا،
فإن هذا سيد المسلمين اليوم.
وقال المأمون: النميمة لا تقْرب مودة إلا أفسدتها، ولا عداوة إلا
جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، ثم لابد لمن عرف بها ونسب إليها أن
يجتنب ويخاف من معرفته ولا يوثق بمكانه.
وأنشد بعضهم:
من نم فى الناس لم تؤمن عقاربه
كالسيل بالليل لا يدرى به أحد
الويل للعهد منه كيف ينقضه |
|
على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
من أين جاء ولا من أين يأتيه
والويل للود منه كيف
يفنيه |
وقال صالح بن عبد القدوس رحمه الله تعالى:
من يخبرك بشتم عن أخ
ذاك شئ لم يواجهك به |
|
فهو الشاتم لا من شتمك
إنما اللوم على من أعلمك |
وقال الحسن: ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت.
وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه: من سمع بفاحشة فأفشاها
فهو كالذى أتاها.
وقال ميمون بن مهران كنت عند أمير المؤمنين سيدنا عمر بن عبد
العزيز، فقال لحاجبه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ ناقته الآن، فأذن
له أن يدخل، فلما دخل قال: حدثنى أبى أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: من ولى شيئا من أمور المسلمين ثم حجب عنه، حجبه
الله عنه يوم القيامة، فقال سيدنا عمر بن عبد العزيز لحاجبه: إلزم
بيتك، فما رؤى على بابه بعد ذلك حاجب.
وكان خالد بن عبد الله القشيرى يقول لحاجبه: إذا أخذت مجلسى فلا
تحجبن عنى أحدا، فإن الوالى لا يحتجب إلا لثلاث: عيب يكره أن يطلع
عليه أحد، أو ريبة يخاف منها أن تظهر، أو بخل يكره معه أن يسأل
شيئا.
وكانت العجم تقول: لا شئ أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة حجاب
الملك، ولا شئ أهيب للرعية وأكف لهم عن الظلم من سهولته.
وقيل: إذا سهل الحجاب أحجمت الرعية عن الظلم، وإذا عظم الحجاب هجمت
على الظلم.
وقيل لبعض الحكماء: ما الجرح الذى لا يندمل؟ قال: حاجة الكريم إلى
اللئيم، ثم يرده بغير قضائها، قيل: فما الذى هو أشد منه؟ قال: وقوف
الشريف بباب الدنئ ثم لا يؤذن له.
ووقف سيدنا عبد الله بن العباس العلوى على باب المأمون يوما، فنظر
إليه الحاجب ثم أطرق، فقال عبد الله لقوم معه: إنه لو أذن لنا
لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، وأما النظرة
بعد النظرة والتوقف بعد التعرف فلا أفهم معناه، ثم انصرف، فبلغ ذلك
المأمون، فضرب الحاجب ضربا شديدا وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر
دواب.
ووقف رجل خراسانى بباب أبى دلف العجلى حينا فلم يؤذن له، فكتب رقعة
وتلطف فى وصولها إليه وفيها:
إذا كان الكريم له حجاب |
|
فما فضل الكريم على اللئيم
|
فأجابه أبو دلف بقوله:
إذا كان الكريم قليل مال
وأبواب الملوك محجبات |
|
ولم يعذر تعلل بالحجاب
فلا تستنكرن حجاب بابى |
ومن محاسن النظم فى ذم الاحتجاب قول بعضهم:
سأهجركم حتى يلـين حـجابـكم
خذوا حذركم من صفوة الدهر إنها |
|
عـلى أنه لاـبد سـوف يليـن
وإن لم تكن خانت فسوف
تخون |
وقال آخر:
ماذا على بواب داركم الذى
لو ردنا ردا جميلا عـنكـم |
|
لم يعطنا إذنا ولا يـسـتأذن
أو كان يدفع بالتى هى أحسن |
وقال آخر:
أمرت بالتسهيل فى الإذن لى
فلن ترانى بعدهـا عـائـدا |
|
ولم ير الحاجب أن يأذنا
ولن تراه بعد مسـتأذنا |
وقال آخر:
ولقد رأيت بباب دارك جفوة
ما بال دارك حين تدخل جنة |
|
فيها لحسن صنيعك التكدير
وبباب دارك منكر ونكير |
وقال آخر:
إذا جئت ألقى عند بابك حاجبا
ومن عجب مغناك جنة قاصد |
|
محياه من فرط الجهالة حـالك
وحاجبها من دون رضوان مالك |
وقال آخر:
سأترك بابا أنت تملك إذنه
فلو كنت بواب الجنان تركتها |
|
ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
وحولت رجلى مسرعا نحو
مالك |
وقال آخر:
ماذا يفيدك أن تكون مـحـجـبا
ما أنت إلا فى الحصار معى فلا |
|
والعبد بالباب الكريم يلوذ
تتعب فكل محاصر مأخوذ |
وقال أبو تمام:
سأترك هذا الباب مـا دام إذنـه
فما خاب من لم يأتـه مـتعـمدا
إذا لم نجد للإذن عندك موضـعا |
|
على ما أرى حتى يلين قليـلا
ولا فاز من قد نال منه وصولا
وجدنا إلى ترك المجئ سبيلا |
|