وصوله الاسكندرية وما وقع له مع سلطان
مصر
وفي
المفاخر ما نصه وذكر سيدي عبد الوهاب الشعراني في قواعد الصوفية
الصغرى: (إن سيدي أبا الحسن الشاذلي لما أتى المغرب، وكتبوا إلى
السلطان في شأنه مكاتيب شنيعة خرج من الإسكندرية وذهب إلى السلطان
واعتقد فيه، فأرسلوا له ثانيا أنه كيماوي فزال اعتقاده منه واتفق أن
خادم داره فعل أمرا يوجب القتل فخاف من السلطان وهرب إلى الشيخ في
الاسكندرية فحماه منه وأرسل السلطان يغلظ عليه ويقول له: تفسد عليَّ
مماليكي. فقال: نحن ممن نصلح لا ممن يفسد. ثم أخرج المملوك من الخلوة
وقال له بُل على هذا الحجر فبال عليه وانقلب الحجر ذهباً وكان نحو
خمسين قنطاراً، وقال له: خذ هذا لإمكان وضعه في بيت المال فلما وصل
إليه رجع عما كان عليه من الاعتقاد الفاسد. ثم نزل إلى زيارته وطلب
منه المملوك ليبول له على ما يشاء من الحجارة فقال الشيخ رضي الله
عنه: الأصل في ذلك الإذن من الله تعالى ولم يزل السلطان على اعتقاده
وعرض عليه الأموال والأزراق فأبى وقال: الذي يبول خُدَّامه على الحجر
فيصير ذهبا بإذن الله لا يحتاج إلى أحد من الخلق.
وذكر
المناوي في الكواكب الدُرِّيَّة أنه لما قدم الشيخ أبو الحسن الشاذلي
إلى الاسكندرية وكان بها أبو الفتح الواسطي وقف بظاهرها وأستأذنه في
الدخول. فقال: طاقية لا تسع رأسين. فمات سيدي أبو الفتح في تلك
الليلة رضي الله عنهما.
قدومه إلى مصر وما وقع له من الفيض الإلهي بها
جاء في
المفاخر ما ملخصه: قال الشيخ ابن معيزل: إن الشيخ رضي الله عنه
لمَّا قدم من المغرب إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله تعالى، فتصاغر
وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب قاطبة، وكان يجلس في مجلسه أكابر
العلماء من أهل عصره، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي
الدين بن دقيق العيد والشيخ الزكي بن عبد العظيم المنذري وابن الصلاح
وابن الحاجب والشيخ جمال الدين بن عصفور والشيخ نبيه الدين بن عوف
والشيخ محي الدين بن سراقة والعالم يس بن العربي رضي الله عنهم، وكذا
الشيخ الإمام قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة كان يفتخر بصحبته. وكان
يقول: من أراد غنى الدارين فليدخل في مذهبنا يومين ، فقال له قائل:
كيف لي بذلك؟ قال فرِّق الأصنام عن قلبك، وأرِحْ من الدنيا بدنك،
ثمَّ كنْ كيف شئت، فإنَّ الله تعالى لا يعذِّب العبد على مدِّ رجليه
مع استصحاب التواضع للاستراحة من التعب، وإنما يعذِّبه به على شيءٍ
يصحبه التكبُّر
وجاء
في لطائف المنن (وكان رضي الله عنه إذا استغرق في الكلام يقول: ألا
رجل من الأخيار يعقل عنها هذه الأسرار؟ هلموا إلى رجل صيره الله
تعالى بحرا من الأنوار). وكان يقول: أخذت ميراثي من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فمكنت من خزائن الأسماء فلو أن الإنس والجن يكتبون
عني إلى يوم القيامة لكلوا وملوا. وقد سئل رضي الله عنه: من شيخك؟.
فقال: أما فيما مضى فكان سيدي عبد السلام بن بشيش.
وقد
وصفه سيدي أبو محمود الحنفي فقال: وكان كلامه في العقل الأكبر والروح
والأنوار والقلم الأعلى والقدس الأبهى والاسم الأعظم والكبريت الأحمر
والياقوت الأزهر والأسماء والحروف والدوائر وهو المتكلم بنور البصيرة
على السراير. كان عالما عارفا بالعلوم الظاهرة وجامعا لدقائق فنونها
ومقتضيا لأبكار المعاني وعيونها من حديث وتفسير وفقه وأصول ونحو ولغز
وأدب وأما علوم المعارف فقطب رحاها وشمس ضحاها ثم جاءه بعد ذلك
العطاء الكبير والفيض الغزير وقصد بالزيارات من جميع الجهات وهو صاحب
الإشارات العلية والعبارات السنية جمع بين العلم والحال والهمة
والمقال.
وفي
لطائف المنن ما ملخصه (وسمعت أن الشيخ أبا الحسن قال عنه أبو العباس:
وهو بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض. كنت لا أسمعه يتحدث إلا في
العقل الأكبر والاسم الأعظم وشعبه الأربعة والأسماء والحروف ودائرة
الأولياء ومقامات المؤمنين والأملاك المقربين عند العرش وعلوم
الأسرار وأمداد الأذكار ويوم المقادير وشأن التدبير وعلم البدء وعلم
المشيئة وشأن القبضة ورجال القبضرة وعلوم الأفراد وما سيكون عليه يوم
القيامة من أفعال الله تعالى مع عباده من حلم وأنعام وجود وانتقام
حتى لقد سمعته يقول لولا ضعف العقول لأخبرت بما سيكون غدا من رحمة
الله تعالى ولو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما
عددت نفسي من المسلمين).
ذكر مناقبه رضي الله عنه
وفي
لطائف المنن أنه كان رضي الله عنه يقول: ليس الشيخ من دلك على تعبك
وإنما الشيخ من دلك على راحتك. وكان يقول ليس الطريق بالرهبانية ولا
بأكل الشعير والنخالة وإنما هو الصبر على الأوامر واليقين في
الهداية. قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا
بآياتنا يوقنون}.
وقال
سيدي أحمد بن عطا الله في لطائف المنن: (وأخبرني بعض أصحابنا أن
الشيخ أبا الحسن قال يوما: والله أنه لينزل عليّ المدد كله فأرى
سريانه في الحوت في الماء والطير في الهواء. فكان الشيخ أمين الدين
جبريل حاضرا فقال للشيخ رضي الله عنه: فأنت إذا القطب فقال الشيخ:
أنا عبد الله، أنا عبد الله).
وقال
الشيخ ماضي بن سلطان في الكواكب الدرية: (تحدث الشيخ يوما في الزهد
وكان في المسجد فقير عليه ثياب رثة والشيخ عليه ثياب حسنة وبردة
يمانية فقال في نفسه: كيف يتكلم الشيخ في الزهد وعليه هذه الكسوة أنا
هو الزاهد في الدنيا. فكاشفه الشيخ وقال له: يا هذا ثياب الرعنة في
الدنيا لأنها تنادي بلسان السعي والفقر وثيابنا تنادي بلسان الغنى
والتععفف فقام واستغفر ذنبه ورجع عن اعتقاده. فأمر له الشيخ بكسوة
طيبة ودله على أستاذ جيد يقال له ابن الدهان ودعا له بخير).
وقال
الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كنت مع الشيخ رضي الله عنه
بقيروان وكان شهر رمضان وكانت ليلة سبعة وعشرين منه فذهب الشيخ إلى
الجامع وذهبت معه فلما دخل وأحرم رأيت الأولياء يتساقطون عليه كما
يتساقط الذباب على العسل. فلما أصبحنا وخرجنا من الجامع قال الشيخ:
ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة وكانت ليلة القدر رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يقول لي: يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظى بمدد
لله في كل نفس. فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟. قال: أعلم أن الله
تعالى قد خلع عليك خمس خلع- خلعة المحبة وخلعة المعرفة وخلعة التوحد
وخلعة الإيمان وخلعة الإسلام فمن أحب الله هان عليه كل شيء ومن عرف
الله صغر لديه كل شيء ومن وجد الله تعالى لم يشرك به شيئا ومن آمن
بالله آمن بكل شيء ومن أسلم لله قل أن يعصيه وإن عصاه اعتذر إليه وإن
اعتذر إليه قبل عذره ففهمت قوله تعالى {وثيابك فطهر}.
وقال
أبو عبد الله الطبي: كنت أتوسل بالشيخ أبي الحسن الشاذلي في كل ليلة
كذا مرة وأسال الله في جميع حوائجي فأجد القبول في ذلك معجلا فرأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله إني أتوسل بالشيخ
أبي الحسن في كل ليلة بعد صلاتي عليك وأسأل الله به في حوائجي. أفترى
عليَّ في ذلك شيئا؟ أراني تعديت؟ فقال لي: أبو الحسن ولدي حساً ومعنى
والولد جزء من الوالد فمن تمسك بالجزء فقد تمسك بالكل وإذا سألت الله
بأبى الحسن فقد سألته بي.
وقال
سيدي أحمد بن عطا الله في لطائف المنن: وأخبرني الشيخ مكين الدين
الأسمر قال حضرت في المنصورة في خيمة فيها سلطان العلماء عز الدين
ابن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد والشيخ مجد الدين
الأخميمي والشيخ أبو الحسن الشاذلي ورسالة القشيري تقرأ بينهم وهم
يتكلمون في معانيها والشيخ أبو الحسن صامت إلى أن فرغ كلامهم فقالوا:
يا سيدي نريد أن نسمع منك. فقال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه وقد
تكلمتم. فقالوا: لابد أن نسمع منك. فمكث الشيخ ساعة ثم تكلم بالأسرار
العجيبة والعلوم الجليلة فقام الشيخ عز الدين وخرج من صدر المجلس
وقال: اسمعوا هذا الكلام القريب العهد من الله تعالى.
وفي
المفاخر قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان الشيخ عز الدين بن عبد
السلام يحضر مجلس الأستاذ أبي الحسن فيسمع تقريره في الحقائق ويشاهد
حسن إفصاحه عن العلم اللدني فعند ذلك يحصل له وأراد من جانب الحق
فينهض قائما. ويقول: تأملوا هذا التقرير فإنه قريب من ربه.
من كراماته رضي الله عنه
ذكر
ابن عياد في المفاخر نقلا عن ابن الصباغ في درة الأسرار ما ملخصه:
(وحدثني من أثق به في العام الذي قدم فيه الشيخ أبو الحسن الشاذلي
رضي الله عنه بنية الحج تحرك العسكر إلى ملك القاهرة فاشتغل الملك
بالحركة عليهم فلم يجهز الجيش من أجل المحمل وأخرج الشيخ خباءه إلى
البركة وأتبعه الناس. قال: لا يجوز السفر للحج لعدم الجيش فلما سمع
الشيخ ذلك اجتمع به في الجامع يوم الجمعة وقال له يا فقيه: أرأيت لو
أن رجلا جعل له الدنيا خطوة واحدة أيباح له السفر في المخاوف، ولله
الحمد ممن جعلت له الدنيا خطوة واحدة فإذا رأيت ما يخوف أتحول بهم
حيث آمن! وسار رضي الله عنه فظهر له في الطريق من الكرامات ما هو
خارق للعادات منها أن اللصوص كانوا يأتون إلى الركب بالليل فإذا
دخلوا وسط الركب يجدون عليه سورا مبنيا لا يستطيعون الخروج منه ففي
الصباح يأتون إلى الشيخ ويتوبون على يديه. فلما حج ورجع الركب إلى
القاهرة خرج الناس والشيخ عز الدين بن عبد السلام للقائه فحدث أهل
الركب الناس بما رأوه من مواهب الله تعالى وأخبروهم بما وقع فدخل عز
الدين على الشيخ وسلم عليه فقال له الشيخ: يا عز الدين لولا تأدبي مع
جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذت الركب يوم عرفة وتخطيت بهم
عرفات. فقال: آمنت بالله ثم قال له: انظر بعينك وأشار بيده إلى
القبلة فنظر فإذا به يرى الكعبة رأي العين فشاهدها هو وكل من حضر من
الناس حتى ضجوا بالأصوات فحط القاضي عز الدين رأسه بين يديه وقال له:
يا سيدي أنت شيخي وأخذ عنه الطريق وانتفع به.
قال
سيدي ماضي بن سلطان تحدث الأستاذ يوما في حقيقة المشيخة والصحبة
وقال: تكون يد الشيخ على أصحابه تحفظهم أينما كانوا غائبين أو
حاضرين. قال: فأنكرت ذلك وقلت في نفسي: أن يكونوا في حضرته فلا مانع
وأما في غيبته فلا يكون ذلك إلا لله عز وجل. فلما أصبحنا أخذني ضيق
في نفسي فخرجت خارج الإسكندرية وجلست على ساحل البحر النهار كله فلما
صليت العصر أدخلت رأسي في طوقي وأنا جالس فبينما أنا كذلك وإذا بيد
حركتني فظننت أنه بعض الفقراء يمازحني فأخرجت رأسي فوجدت امرأة حسنة
متجملة بالحلي واللباس الحسن فقلت لها ما تريدين؟ قالت: أنت. فقال
أعوذ بالله منك فقالت: والله مالي عنك براح. فدافعتها عن نفسي
فأخذتني ولعبت بي كما تلعب بالعصفور وما ملكت نفسي شيئا فرمتني بين
فخذيها فحنت نفسي إليها وإذا بيد الشيخ أخذتني من أطواقي ورمتني عنها
فظننت أني حذرت من السماء فأخذتني دهشة ثم خاطبني رضي الله عنه قال
لي: يا ماضي ما هذا الذي تقع فيه؟ فقمت ورفعت عيني فما وجدت الشيخ
ولا المرأة فعجبت من ذلك وعلمت ذنبي مع الشيخ وأني أصبحت بإعتراضي
عليه فرجعت ودخلت بيتي مختفيا من الفقراء فلما صلى الشيخ دخل الخلوة
وقال: أين ماضي؟ قالوا: يا سيدي ما رأيناه اليوم.
قال:
أطلبوه في بيته. فطلبوني فاعتذرت بالمرض فلما أخبروه قال أحملوه
بينكم فحملوني وأدخلوني عليه فلما خرجوا قال لي: يا ماضي ما قلت أنا
بالأمس فكيف اعترضت عليَّ وأين كنت مني اليوم ما أردت لك أن تقع في
المعصية؟ يا ماضي من لم يكن
كذلك فليس بشيخ.
|